جدل موازنة صندوق التنمية في ليبيا.. هل أعاد الصراع بين حفتر وصالح؟
استمع إلى الملخص
- وافق المجلس على إعداد ميزانية للصندوق مع فرض شروط رقابية، في محاولة من صالح لاحتواء نفوذ حفتر المتزايد، الذي يسعى لترسيخ استقلالية الصندوق كأداة سياسية.
- الصراع بين صالح وحفتر يعكس انقسامات تهدد التسوية السياسية، حيث يتنافس الطرفان على الموارد والأموال، مما قد يؤدي إلى انشقاقات داخل معسكر الشرق.
كشفت جلسة مجلس النواب الليبي، التي عُقدت أمس الاثنين في بنغازي، لمناقشة طلب تخصيص موازنة لصندوق التنمية وإعادة الإعمار، الذي يقوده بلقاسم نجل خليفة حفتر، بقيمة 69 مليار دينار، عن شروخ عميقة ومكتومة في السلطة شرق البلاد. فالنقاش الفني الذي تخلل الجلسة حول الميزانية تحول إلى مشادات بين نواب مقربين من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عارضوا إقرار الميزانية، وآخرين مقربين من معسكر خليفة حفتر تقدموا بطلب تخصيص الميزانية، ما عكس خلافات مكتومة داخل معسكر شرق البلاد الذي ظل لسنوات يظهر بوصفه كتلة واحدة في مواجهة خصومه السياسيين.
وانعقدت جلسة النواب أمس بشكل مفاجئ، متجاوزة أولوية المجلس المعلنة في الأسبوعين الأخيرين في متابعة تنفيذ قرارها لتشكيل حكومة جديدة، تم خلالها استدعاء مرشحي رئاسة الحكومة للاستماع إلى برامجهم. فبدلا من الاستمرار في هذا الاتجاه عقد المجلس هذه الجلسة التي افتتحها صالح بعبارات تؤشر على تعرضه لضغوط من أجل عقدها، إذ أوضح أنها جاءت استجابة لطلب 35 نائبا لتخصيص ميزانية مستقلة لصندوق التنمية وإعادة الإعمار، ودعا الموقعين على الطلب إلى توضيح "الفائدة من الطلب للشعب الليبي". وفي تشكيك ضمني في صحة التوقيعات على الطلب قال صالح "ومن يوجد اسمه في هذا الطلب ولم يوقع عليه أن يصرح بذلك"، ما يعكس تماهيه مع الضغوط لعقد الجلسة.
وأثناء مداخلات الموقعين على الطلب لتوضيح أسباب طلب ميزانية خاصة للصندوق، بدا واضحا أنهم من النواب الذين يشكلون كتلة برلمانية موالية لرئيس الصندوق بلقاسم حفتر، وفي المقابل جاءت الاعتراضات على إعداد الميزانية من جانب نواب موالين لصالح، ما حول الجلسة إلى ساحة مواجهة كلامية، طالب خلالها المعترضون بضرورة الإفصاح عن مصروفات الصندوق وإنفاقه للموازنة التي منحت له من الحكومة في بنغازي خلال السنوات الماضية، فيما اعتبر الموالون لحفتر هذه المطالب بــ"المزايدة لعرقلة" مشروعات الإنماء التي يقودها الصندوق.
ومع استفحال المشادات الكلامية نقلت الجلسة من علنية إلى مغلقة، قبل أن يعلن المجلس عن موافقته على إعداد ميزانية خاصة بالصندوق، وتلت هذا الإعلان قرارات أخرى، نشرها المتحدث الرسمي باسم مجلس النواب عبد الله بليحق، بدت شروطا لتنفيذ القرار الأول، ومنها الجواب على ملاحظات النواب حول مصروفات الصندوق خلال السنوات الماضية، وتشكيل لجنة برلمانية تضم نائباً عن كل منطقة للاجتماع مع إدارة الصندوق لمناقشة توزيع المخصصات على المشاريع في جميع أنحاء ليبيا، بما فيها غرب البلاد، كما قرر المجلس إلغاء قرار سابق منح فيه الصندوق استثناء من الرقابة الإدارية والمالية.
وفيما يبدو أن قرار إلغاء استثناء الصندوق من الرقابة الإدارية والمالية، عكس مطالبة النواب المعترضين المطالبين للصندوق بالإفصاح عن مصروفاته في السنوات السابقة، يظهر أن اعتراضهم لامس جوهر انفراد الصندوق بالعمل بعيدا عن الرقابة والمحاسبة، لكن الباحث في الشأن السياسي عيسى همومه يرى أن وراء القرار محاولة من صالح وحلفه النيابي تعطيل استمرار تفرد تصرف حفتر في موارد الصندوق وقراراته، وإعادة فرض نوع من المحاسبة عليه.
ووفقا لهمومه، فإن قلق صالح من مساعي حفتر لبناء مؤسسات مستقلة عن رقابة البرلمان ليس أمرا جديدا، ويستدل في حديثه لـ"العربي الجديد" على ذلك بمسار تأسيس صندوق التنمية نفسه، الذي تأسس بقرار من صالح مطلع العام الماضي، بذمة مالية مستقلة وإعفاء من الرقابة، لكنه عاد ونقل تبعيته للحكومة في بنغازي لتبقى موارده المالية تحت الرقابة، ما يؤشر على قلقه الدائم من استقلالية مؤسسات حفتر.
ويلفت همومه إلى أن قلق صالح قد يكون مرجعه نجاح حفتر، عبر قيادة نجله لصندوق التنمية، في تحويله إلى أداة لحشد التأييد الشعبي "لصالح عائلته وتعزيز نفوذها بشكل لا يقبل المزاحمة"، معتبرا أن سعي حفتر للحصول على ميزانية مستقلة للصندوق خارج إطار حكومة بنغازي "هو في الحقيقة خطوة استراتيجية لترسيخ استقلاليته وحصانته، ليتحول إلى جهاز تنفيذي كامل الصلاحيات يمتلك أمواله الخاصة ويتخذ قراراته بمعزل عن أي رقابة، ويدير إدارته بشكل منفصل".
ويرى همومه أن الصندوق، بهذه الصيغة، يتجاوز كونه أداة للإعمار إلى "أداة سياسية بالدرجة الأولى، تعمل على استدامة التأييد الشعبي لحفتر، وإدارة شبكات اتصالاته الدولية عبر عقود الشركات الكبرى التي يمكنها التأثير على سياسات دولها، والأهم هو أن الصندوق بعدم خضوعه للرقابة يصبح قناة آمنة يمول منها حفتر قوته العسكرية".
ومن هذه الزاوية يقرأ همومه قرارات مجلس النواب بشأن ميزانية الصندوق، بأنها تمثل سياسة احتواء من قبل صالح عبر موافقته المشروطة على إعداد الميزانية، من خلال ربط الموافقة عليها بتقديم إيضاحات حول مصروفاتها السابقة وفرض رقابة جديدة وتشكيل لجنة برلمانية تشارك في الإشراف على المشروعات المقبلة، معتبرا أنها خطوة تهدف من جهة لاستيعاب ضغوط الكتلة النيابية الموالية لبلقاسم، ومن ناحية أخرى تهدف لفرض قيود تعيق التفرد الكامل بالصندوق وموارده.
وليس التوتر بين صالح وحفتر بالأمر الجديد، فخلال سنتي 2022 و2023 تمكن بلقاسم من عرقلة الكثير من قرارات صالح، حين كان يمارس مهمة مستشار سياسي لوالده، إلى حد تشكيله كتلة برلمانية برئاسة نائب رئيس المجلس مصباح دومة، تحولت إلى أداة لتمرير ما يحمي مصالح حفتر. لكن اللافت أن تداعيات الصراع الجديد بينهما تسربت إلى داخل حكومة بنغازي نفسها، وهو ما يتجلى في أن أحد النواب المعارضين لمنح صندوق التنمية ميزانية خاصة به، هو علي أبوزريبة (شقيق وزير الداخلية عصام أبوزريبة، وهو أحد المرشحين المحتملين لرئاسة الحكومة الجديدة التي يدفع بها صالح)، ما يكشف عمق الانقسام حتى داخل الحكومة الخاضعة لحفتر في بنغازي.
وعلى هذا الأساس يربط همومه الصراع بسياق محاولات صالح الجادة لتشكيل حكومة جديدة، بما في ذلك استبدال حكومة أسامة حماد في بنغازي الخاضعة لسلطة حفتر، لافتا إلى أن خطوة صالح واجهت معارضة من حفتر منذ البداية، ومشيرا إلى أن النواب الذين تقدموا بطلب تخصيص ميزانية الصندوق هم أنفسهم من أصدروا بيانا استباقيا لاستدعاء صالح للمترشحين لرئاسة الحكومة الجديدة، رفضوا فيه تشكيل أي حكومة جديدة وأكدوا تمسكهم بالحكومة القائمة في بنغازي، لكونها الضامن لاستمرار مشروعات الإعمار التي يقودها صندوق التنمية.
ويخلص همومه إلى أن صراع الميزانية هذا ليس سوى حلقة في مواجهة أوسع، يسعى فيها حفتر لترسيخ مؤسسة موازية شبه حكومية تتمتع باستقلالية تامة تحت سيطرته، بينما يحاول صالح استخدام سلطته التشريعية لفرض رقابة تحد من هذا التمدد وتعيد الصندوق إلى دائرة المؤسسات الخاضعة للمساءلة. لكن هذا الصراع، بحسب همومه، يمثل فصلا خطيرا جديدا لا يقتصر على انكشاف حقيقة وحدة الصف في سلطة شرق البلاد، بل يهدد أي أفق لتسوية سياسية مستقبلية، لأنه ينقل ساحة الصراع من الخلافات السياسية إلى التنافس المحتدم على الموارد والأموال، وهو تنافس قد يصل إلى حد تفجير انشقاقات عميقة داخل معسكر الشرق، على غرار ما حدث في غرب البلاد.