النضال الفلسطيني القانوني ضرورة ملحة في ألمانيا

28 ابريل 2025
من محاولات شرطة برلين اعتقال متظاهرين متضامين مع غزة 4 /1 /2025 (خليل ساجيركايا/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- حادثة مطاردة الشرطة الألمانية لطفل فلسطيني يحمل علم بلاده في برلين أثارت استياءً واسعًا، مسلطة الضوء على انتهاكات حقوق الطفل والقوانين الدولية، ومثيرة تساؤلات حول التزام ألمانيا بحقوق الإنسان.
- يواجه الفلسطينيون في ألمانيا تحديات تتعلق بالإقامة والجنسية، مما يعيق مشاركتهم المجتمعية ويؤثر على فرصهم التعليمية والوظيفية، ويزيد من شعورهم بالعزلة وعدم الأمان.
- تتبنى ألمانيا سياسات إعلامية تضعف التعاطف مع القضية الفلسطينية، مما يتطلب من الفلسطينيين تنظيمًا قانونيًا وتحالفات حقوقية لتعزيز حقوقهم وتطوير خطاب إعلامي يركز على العدالة.

في أحد شوارع العاصمة الألمانية برلين، التي طالما تغنت بقيم الحرية وحقوق الإنسان، شهد المارة مشهدًا يهز الضمير الإنساني، طفلٌ لم يتجاوز العاشرة من عمره، يركض بكلّ ما أوتيَ من قوّةٍ، مذعورًا، يحمل في يده الصغيرة علم فلسطين، رفض أن يلقيه، وكأنّه يتمسك بما يمثّله هذا العلم من كرامةٍ وهويةٍ، ومن خلفه، كتيبةً كاملةً من رجال الشرطة الألمانية، يطاردونه كما لو كان مجرمًا خطيرًا، لا طفلًا يعبر عن موقفٍ إنسانيٍ وسياسيٍ سليمٍ.

برشاقة لاعب كرة قدمٍ محترفٍ، راوغ الطفل الشرطة لدقائق عدّة، أرهقهم في ملاحقةٍ عبثيةٍ لا تليق بدولةٍ تدعي احترام حقوق الطفل، لكنه في النهاية، كبقية الأطفال الذين يخنق القمع طفولتهم، أُنهك واستسلم، ليجد نفسه محاصرًا بنحو عشرين شرطيًا، ألقوا القبض عليه، واعتقلوه وسط ذهول الحاضرين وصدمتهم.

ما يجعل المشهد صادمًا أكثر ليس أن ضحية هذا الاستعراض البوليسي هو طفلٌ صغيرٌ فقط، بل إنّ منفذي هذا الانتهاك لم يكونوا جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين اعتادوا مطاردة واعتقال الأطفال الفلسطينيين، ولا رجال شرطةٍ في دولةٍ ديكتاتوريةٍ تمارس القمع العلني من دون خجلٍ، بل كانوا أفرادًا من الشرطة الألمانية، في دولةٍ يفترض أنّها ديمقراطية، ويفترض أن مؤسساتها تحترم التزاماتها الدولية وحقوق الإنسان، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالأطفال.

تحرم تعقيدات الإقامة الفلسطينيين من فرصٍ كثيرةٍ، وتعيق بناء جاليةٍ قويةٍ ومنتجةٍ قادرةٍ على ترك بصمةٍ في المجتمع الألماني

هذه الحادثة، التي وثّقتها مقاطع الفيديو، وانتشرت على نطاقٍ واسعٍ، ليست استثناءً أو حالةً فرديةً، بل هي جزءٌ من سلسلةٍ طويلةٍ من التجاوزات، التي تطاول المتضامنين مع فلسطين في ألمانيا، ومن ضمنهم القُصّر. إنّها انتهاكاتٌ متكررةٌ، تثير تساؤلاتٍ خطيرةً حول مدى التزام الدولة الألمانية بتطبيق قوانينها الداخلية والاتّفاقيات الدولية التي وقّعت عليها.

في هذا المشهد المتكرر؛ انتهكت الشرطة مجموعةً من القوانين نذكر منها:

1. المادة 19 من قانون العقوبات الألماني (StGB): تنص بوضوح على أنّ "الأشخاص الذين لم يبلغوا سن الرابعة عشرة لا يُعتبرون مسؤولين جنائيًا"، ما يعني عدم جواز اعتقالهم أو احتجازهم لأسباب جنائية. أي إجراء من هذا النوع يعد انتهاكًا مباشرًا للنص.

2. المادة 1631 من القانون المدني الألماني (BGB): تمنح الأطفال الحقّ في تربيةٍ خاليةٍ من العنف، وتحظر العقوبات الجسدية والنفسية، وتعتبر أي نمط من أنماط الإهانة أو الإيذاء النفسي أو الاحتجاز القسري انتهاكًا لهذا الحقّ.

3. المادة 37 من اتّفاقية حقوق الطفل التابعة للأمم المتّحدة: ألمانيا من الدول المصادقة عليها منذ عام 1992، وتنص على "لا يجوز حرمان أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية. يجب أن يكون الاعتقال أو الاحتجاز وفقًا للقانون، ويستخدم ملاذًا أخيرًا، ولأقصر فترةٍ زمنيةٍ ممكنةٍ".

من الواضح أنّ هذه المعايير لم تُحترم في حالة الطفل الفلسطيني في برلين، لا من حيث مشروعية الاعتقال، ولا من حيث ضرورته ولا أسلوبه.

إن ما جرى ليس مجرد حادثٍ عارضٍ، بل فعلٌ مقصودٌ وممنهجٌ ومتكررٌ في عدم الالتزام بالقانون، وغض الطرف من مؤسساتٍ يفترض بها حماية الحقّ، لا انتهاكه. استمرار هذه الانتهاكات لا يمكن فصله عن غياب المساءلة، وضعف الضغط القانوني والإعلامي والسياسي داخل ألمانيا.

صحيحٌ أنّ الجالية الفلسطينية في ألمانيا هي الأكبر في أوروبا، يصل عددها إلى 200 ألف فلسطينيٍ، إلّا أنّها لم تستطع إلى الآن تحقيق اختراقٍ كبيرٍ ضمن المجتمع والمؤسسات الألمانية، رغم الجهود النضالية الجبارة، التي يبذلها أبناء هذه الجالية في سبيل مواجهة أنماط القمع المختلفة في حقّهم وحقّ قضيتهم، وذلك لعوامل عدّة، منها:

1- تعقيدات الحصول على الإقامة والجنسية بالنسبة للفلسطينيين في ألمانيا، بسبب وضعهم الخاص، إذ تعاملهم ألمانيا على أنّهم مجهولو الوطن "ungeklärt"، بدلًا من عديمي الجنسية "staatenlos"، الفرق بين الحالتين كبيرٌ جدًا، يقابل تسهيلات الحصول على الجنسية في الحالة الثانية تعقيداتٌ كبيرةٌ في الحالة الأولى.

مواجهة معاداة الفلسطينية في ألمانيا تتطلب وعيًا وتنظيمًا وحضورًا فاعلًا، الخطوة الأولى هي معرفة الحقوق القانونية، خصوصًا ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير

لذلك يعيش الفلسطيني لسنواتٍ على إقامةٍ مؤقتةٍ ما يجعله مهددًا بالترحيل في أيّ لحظةٍ، يصعب عليه أن يخطط لمستقبله أو يستثمر في نفسه. يجد كثيرٌ من الشباب الفلسطينيين أنفسهم عاجزين عن مواصلة التعليم الجامعي، أو الحصول على فرص عملٍ وتدريبٍ، بسبب وضعهم القانوني غير مستقر فقط، هذا يخلق فجوةً كبيرةً بينهم وبين أقرانهم، ويمنعهم من بناء حياةٍ مستقرةٍ.

هذا الواقع لا يضر بالأفراد فقط، بل يؤثر على الجالية الفلسطينية كلّها، فحين تُمنع من المشاركة السياسية، أو العمل في مؤسسات المجتمع، بسبب غياب الإقامة أو الجنسية، يصبح من الصعب تمثيل الفلسطينيين حقًا، أو التأثير داخل الحياة العامة الألمانية، من هنا؛ يصبح إنتاج نخبٍ فلسطينيةٍ فاعلةٍ ومؤثرةٍ أمرًا بالغ الصعوبة.

كذلك؛ لا يمكن تجاهل الأثر النفسي لهذه الظروف، فالشعور بعدم الأمان القانوني، والقلق من المستقبل، والعزلة التي يفرضها الواقع، كلّها عوامل تضعف ثقة الفلسطيني بنفسه، وتجعله يشعر وكأنّه "ضيفٌ مؤقتٌ"، حتى لو ولد في ألمانيا.

باختصار، تحرم تعقيدات الإقامة الفلسطينيين من فرصٍ كثيرةٍ، وتعيق بناء جاليةٍ قويةٍ ومنتجةٍ قادرةٍ على ترك بصمةٍ في المجتمع الألماني. يعيش الفلسطينيون في ألمانيا بين القوانين المعقدة، والتمييز المعلن وغير المعلن، والواقع القاسي لكونهم بلا دولةٍ تحميهم، ويحتاجون دعمًا قانونيًا حقيقيًا لتأمين أبسط حقوقهم.

كما أن توجه معظم الطلاب الجامعيين إلى الاختصاصات الطبية أو الهندسية، يجعل عدد الاختصاصيين القانونيين بين صفوف الجالية الفلسطينية في ألمانيا قليلًا جدًا، ولا يغطي ما تحتاجه الجالية، والقضية من دعمٍ قانونيٍ ضروريٍ لمواجهة التحديات الكبيرة.

2- سياسات الهيمنة التي تنتهجها الدولة الألمانية، سواء في الإعلام الألماني الممول من أموال دافعي الضرائب بهدف "ضمان الحياد"، لكن من الواضح أن هذا الهدف ما هو إلّا كذبة شبيهة بالأكاذيب التي يروج لها هذا الإعلام، الذي يتبنى دائمًا سردية الدولة في كلّ المواضيع، وفي ما يخص فلسطين تتبنى ألمانيا السردية الصهيونية بحذافيرها، وتحاول تشويه الحقائق وتدمير السردية الفلسطينية بشتى الوسائل، لا تقتصر هيمنة الدولة على الإعلام بل تتعداه إلى مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، لا سيّما عندما تقدم المدارس والجامعات والبلديات والكنائس في ألمانيا كلّ التسهيلات الممكنة لنشر السردية الصهيونية وشيطنة الفلسطيني. سياسات الهيمنة الألمانية تجعل المجتمع الألماني قليل التعاطف مع القضية الفلسطينية، وهذا ينعكس على القانونيين، لذلك يكون عدد المحامين الألمان المتحمسين للدفاع عن الفلسطينيين في ألمانيا قليلًا جدًا.

3- الانتقال من الهيمنة إلى السيطرة، إن قصة الطفل في بداية المقالة ما هي إلّا غيضٌ من فيضٍ، رغم كلّ الهيمنة التي تنتهجها الدولة الألمانية إلّا أنّها لم تكن كافية في مواجهة النضال الفلسطيني، ما جعلها تنتقل إلى استخدام القوّة المادية والمعنوية، إذ أُعطي الضوء الأخضر للشرطة كي تضرب وتسحل وتعتقل المتظاهرين الداعمين للقضية الفلسطينية، وخرج السياسيون الألمان، بمختلف انتماءاتهم الحزبية، بتصريحاتٍ وتهديداتٍ للفلسطينيين والداعمين لهم، كما تعرض الكثير من الأكاديميين للفصل من الجامعات، أو ضيق عليهم بطريقةٍ حولت الجامعة إلى مكانٍ لا يطاق، والكثير من الموظفين فصلوا، أو مهددين بالفصل من وظائفهم.

ما يجعل المشهد صادمًا أكثر ليس أن ضحية هذا الاستعراض البوليسي هو طفلٌ صغيرٌ فقط، بل إنّ منفذي هذا الانتهاك لم يكونوا جنود الاحتلال الإسرائيلي

4- محاربة اليسار الألماني الحقيقي من قبل الدولة، كما هو معروف؛ يُعتبر اليسار الداعم الرئيسي للقضية الفلسطينية في العالم، ولمواجهة هذا اليسار استطاعت الدولة الألمانية، بدعمٍ من الاحتلال الصهيوني، خلق "يسارٍ" ألمانيٍ صهيونيٍ (الأنتي دويتش) (antideutsch) وهو يسارٌ بالاسم فقط، والاسم مخالفٌ لحقيقة هذا "اليسار"، فهو لا يتبنى الصهيونية فحسب، بل يدعم سياسات الدولة الألمانية الخارجية، ومدافع شرس عن الإمبريالية الأميركية. بدأ يتوسع ويتمدد منذ عام 1994، على حساب القوى اليسارية الأخرى، حتّى بات اليوم مسيطرًا على المراكز الشبابية والطلابية في المدن والجامعات، هذا يؤدي إلى ظهور معاداة الفلسطينية في الوسط الطلابي، ومن ضمنهم طلاب القانون، الذين شكلوا وسيشكلون الطبقة القانونية في ألمانيا. مواجهة معاداة الفلسطينية في ألمانيا تتطلب وعيًا وتنظيمًا وحضورًا فاعلًا، الخطوة الأولى هي معرفة الحقوق القانونية، خصوصًا ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير. لكن الأهمّ من ذلك كلّه هو بناء جسمٍ قانونيٍّ فلسطينيٍّ، أو داعمٍ للقضية الفلسطينية، يتولى الدفاع عن الحقوق، ومتابعة الانتهاكات، وتقديم المشورة القانونية للفلسطينيين الذين يتعرضون للاستهداف بسبب آرائهم أو نشاطهم السياسي. يمكن لهذا الجسم القانوني أن يعمل على:

- تقديم شكاوى ضدّ التمييز أو التضييق في العمل أو الجامعات أو من قبل الشرطة.
- دعم النشطاء قانونيًا في حال الملاحقة أو التشويه.
- إصدار بيانات قانونية موثقة، ترد على الحملات الإعلامية والسياسية التي تستهدف الفلسطينيين ومناصريهم.
- رفع دعاوي أمام المحكمة الدستورية العليا تطعن في العديد من القوانين المعادية للفلسطينية، التي يصدرها البرلمان الألماني رغم مخالفتها الدستور.

إلى جانب ذلك، من الضروري:

- بناء تحالفات مع منظّماتٍ ألمانيةٍ تهتم بحقوق الإنسان وحرية التعبير.
- إنتاج خطاب إعلامي عاقل وواضح، يركز على العدالة وحقوق الإنسان بدلًا من الشعارات الانفعالية.
- تشجيع أبناء الجالية الفلسطينية على الانخراط في الحياة العامة، وتأسيس حضور قانوني وسياسي ومجتمعي قوي.
- بناء تحالفات وتحصيل الدعم عالميًا للدفاع عن الوجود والحقوق الفلسطينية في ألمانيا.

لا يكفي أن ندافع عن قضيتنا بالعاطفة فقط، بل نحتاج إلى أدواتٍ قانونيةٍ ومؤسساتٍ منظّمةٍ، تفرض وجودنا وتحمي حقوقنا داخل المجتمع الألماني. هذا كلّه لا يعني أنّ الفلسطينيين والداعمين لهم في ألمانيا مستكينون عن النضال، لا بل إنّ نضالهم مضاعفٌ مقارنة بأقرانهم في باقي الدول الأوروبية، وذلك نتيجة الظروف التي ذكرنا بعضها سابقًا. وقد أثّمر نضالهم القانوني عن حماية العديد من الناشطين، ومواجهة بعض القوانين والطعن بها، كما أثمر عن تشكيل أول مؤسسةٍ قانونيةٍ (عزوة)، تسعى إلى " تحقيق العدالة في ألمانيا والحرية في فلسطين"، هذه المؤسسة رغم صغرها وقلة فاعليتها إلّا أنّها خطوةٌ أولى لبناء مؤسساتٍ قانونيةٍ وازنةٍ، ولا بدّ من دعم مؤسسات كهذه على مستوى ألمانيا والعالم، لتصير بيئة النضال الفلسطيني أكثر أمانًا وجذبًا للعديد من المترددين والمتخوفين حول العالم.

المساهمون