تعيش باكستان منذ أيام على وقع اشتداد الأزمة السياسية بعد فشل الحوار بين حزب حركة الإنصاف بزعامة عمران خان الذي يقبع في السجن منذ أكثر من عام وبين المؤسسة العسكرية، قبل أن ينعكس التوتر في الشارع مع فض الجيش بالقوة اعتصاماً لأنصاره في إسلام أباد تخلله مقتل العشرات واعتقال نحو ألف شخص وسط أنباء عن خلافات داخل حزب خان وتوقعات بتشديد التضييق على "حركة الإنصاف" وخان نفسه داخل سجنه. وأعلنت الحكومة الباكستانية أن السلطات المختصة في العاصمة إسلام أباد اعتقلت، أول أمس الأربعاء، 954 من أنصار حزب عمران خان يشتبه بضلوعهم في أعمال عنف في احتجاجات باكستان بينهم مواطنون أفغان، وذلك غداة إعلان حزب خان إنهاء الاعتصام بعد مقتل 20 من أنصاره وإصابة العشرات خلال محاولة القوات الخاصة فض الاعتصام.
وقال عمدة إسلام أباد محمد علي رندا، في مؤتمر صحافي مشترك مع مسؤول شرطة العاصمة علي ناصر، ليل الأربعاء الخميس إن أنصار خان "دخلوا إلى العاصمة مساء الـ26 من الشهر الجاري وبدأوا يقومون بأعمال عنف وهجمات على الشرطة وقوات الأمن، ولكن قوات الأمن تصدت لهم وفضت اعتصامهم بطريقة مناسبة، ما يعتبر نجاحا كبيرا للسلطات الأمنية. كما ذكر المسؤول أن الحكومة الباكستانية قررت أن لا تسمح لأي من الأفغان بالدخول إلى العاصمة والعيش فيها إلا بعد أخذ تصريح خاص من الشرطة، وذلك بعدما ثبت ضلوعهم في أعمال الشغب التي قام به أنصار خان.
اعتقال زوجة خان أمر يحتمل حصوله
وفيما أشاد رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف بدور قائد الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير في القضاء على اعتصام أنصار عمران خان أمام مقر البرلمان، مؤكداً أن السلطات الأمنية قضت على الاحتجاج بصورة حكيمة، ولن تسمح لأي جهة بأن تقوم بمثل هذا العمل في المستقبل، أعلن حزب عمران خان مقتل 20 من أنصاره وإصابة عشرات آخرين. وقال رئيس الحكومة المحلية في إقليم خيبربختونخوا علي أمين غاندابور، في تصريح صحافي، إن القوات الباكستانية مارست أشد أنواع الظلم على المواطنين المظلومين وكانوا يطلقون النار من كل الأطراف على المحتجين العزل في احتجاجات باكستان مضيفاً أنه "رأى أنصاره يسقطون بين قتيل وجريح"، بالتالي قرر إنهاء الاعتصام والاحتجاج.
وكانت أنباء إجراء مفاوضات حثيثة بين حزب حركة الإنصاف، حزب رئيس الوزراء السابق المسجون عمران خان، وبين المؤسسة العسكرية (التي توصف بأنها الدولة العميقة) قد هيمنت على المشهد السياسي في الأسابيع الأخيرة. تحدث خان من داخل السجن عن هذه المفاوضات، كاشفاً أنه شكّل لجنة من ثلاثة قياديين في حزبه للتفاوض مع "الدولة العميقة"، وهم: زعيم الحزب الحالي جوهر علي، والأمين العام عمر أيوب، ورئيس وزراء الحكومة المحلية في إقليم خيبربختونخوا علي أمين غاندابور. كما أعرب أكثر من قيادي في حزب حركة الإنصاف عن تفاؤلهم بشأن المفاوضات، في حين التزمت الحكومة والمؤسسة العسكرية الصمت حيالها.
لكن في موازاة ذلك، استعد حزب خان لإغلاق العاصمة إسلام أباد، مدشناً مرحلة جديدة من احتجاجات باكستان عبر تنظيم اعتصام مفتوح شعبي وذلك للضغط على المؤسسة العسكرية خلال عملية التفاوض، وللإمساك بورقة بديلة حال فشل الحوار. وقد حصل ذلك بالفعل، بسبب إصرار كل طرف على موقفه، وفق مراقبين، إذ أصرت المؤسسة العسكرية على أن يطلب عمران خان العفو عما حصل من أعمال شغب ومهاجمة مقرات الجيش في التاسع من شهر مايو/أيار الماضي، مع عدم مزاولته للعمل السياسي لفترة ما، وذلك لأنه حاول خلال حكمه للبلاد رئيساً للوزراء، بين عامي 2018 و2022، تقويض صلاحيات المؤسسة العسكرية وتقليص ميزانيتها. في المقابل، رفض خان مطالب الجيش الباكستاني، الأمر الذي نجم عنه فشل العملية التفاوضية واللجوء إلى خيار الاعتصام والاحتجاج تحت شعار "الدعوة الأخيرة لإطلاق سراح خان". في السياق، جرت الاستعدادات لتنظيم واحد من أكبر احتجاجات باكستان خصوصاً في شمال غربي البلاد، حيث معاقل قبائل البشتون، التي تتحدر منها قبيلة عمران خان، وهي قبيلة نيازي.
اندلاع احتجاجات باكستان
مع ذلك، ظن كثير من المراقبين أن الحوار مستمر بين الطرفين رغم بدء الاحتجاجات وتوقعوا أن يفضي إلى نتيجة لأن العداء بين خان والمؤسسة العسكرية ليس في صالح البلاد. غير أن التطورات التي حصلت في الأيام الأخيرة، أثبتت أن الفجوة بين الجانبين أصبحت كبيرة، وأن الحوار خلال الأيام الثلاثة الأخيرة قبل بدء الاعتصام، الثلاثاء الماضي، استمر بغرض إقناع حزب خان بتنظيم الاعتصام خارج العاصمة، مع نقل قيادة المؤسسة العسكرية تهديدها لحزب حركة الإنصاف، بأن النتائج ستكون وخيمة، إذا دخلوا إلى العاصمة. حول ذلك، كشف الإعلامي الباكستاني عمران رياض خان على قناته الخاصة على منصة يوتيوب، أمس الخميس، أن رئيس وزراء حكومة إقليم خيبربختونخوا علي أمين غاندابور، قال له شخصياً إن مفاوضات مكثفة أجراها مع "جهات مجهولة" (مصطلح يستخدم للمؤسسة العسكرية والدولة العميقة)، بهدف مناقشة الوضع الأمني والقيام بالاعتصام خارج العاصمة، ولكنها لم تنجح وحصل ما حصل، في إشارة إلى عملية فض الاعتصام بقوة وسقوط عشرات القتلى والجرحى، من أنصار حزبه.
وأدى موقف المؤسسة العسكرية وفشل الحوار بين الطرفين إلى نشوب خلافات في حزب عمران خان، جراء إصرار الكثير من قيادات الحزب، ومنهم وزراء في حكومة خيبربختونخوا المحلية وأعضاء البرلمان على عدم التحرك صوب البرلمان المركزي في إسلام أباد، والقيام بالاعتصام خارج العاصمة، لأن المؤسسة العسكرية أوصلت رسائل لهم بأنها ستقوم بأي عمل من شأنه القضاء على الحراك داخل العاصمة. في المقابل، أصر قياديون آخرون بينهم بشرى بيبي، زوجة عمران خان، ورئيس وزراء حكومة خيبربختونخوا علي أمين غاندابور وآخرون من قياديي الصف الثاني والثالث، على الاعتصام أمام مقر البرلمان المركزي، الذي كانت تنتشر فيه عناصر الجيش والقوات الخاصة. وهو ما حصل فعلاً، مع وصول آلاف المحتجين إلى أمام البرلمان بينما قامت قوات الجيش والقوات الخاصة بإخلاء المنطقة أولاً وبفضها له بالقوة ثانياً.
في السياق، قال الإعلامي الباكستاني حامد مير، في تصريحات صحافية أمام البرلمان، إنه "حين وصل المحتجون كانوا بالآلاف، وبينما كانت قوافل أخرى في الطريق أو في أماكن قريبة من البرلمان، رأيت رجال الأمن يصافحون المحتجين ويتركون المنطقة، لكن بعد ساعات جاءنا أمر من "جهة مجهولة" (المؤسسة العسكرية)، وأنا في مكتب قناة جيو القريب من موقع الاعتصام، بأن نطفئ الأنوار و(نقوم) بإخلاء المبنى والخروج فوراً".
وأضاف مير أنه توجه سيراً على الأقدام إلى منطقة تشاينه جوك القريبة من موقع الاعتصام، حيث كانت قيادات الحزب. وأضاف: "تحدثت معهم وكانت بينهم خلافات عميقة، أوصلتهم إلى مشادات كلامية وشتم. الكثير منهم لم يرغبوا في حصول الاعتصام أمام مقر البرلمان المركزي لأنهم كانوا يعرفون النتيجة، وآخرون أصروا على ذلك. المهم أن عدداً كبيراً من المحتجين كان أمام البرلمان وآخرين في مناطق أخرى داخل العاصمة، ثم ذهبت إلى الموقع المركزي للاعتصام أمام البرلمان وفجأة رأيت ما لم أره في تاريخ باكستان، إطلاق نار كثيفا وكأنه على الأعداء وبشكل مباشر، رأيت الناس يصابون... رأيت المنصة الرئيسية تحترق وكانت عليها زوجة عمران خان فضلاً عن أمين غاندابور، ولكنهما خرجا منها قبل احتراقها". لاحقاً، أعلن وزير الإعلام عطاء الله تارار ووزير الداخلية محسن نقفي، أن الاعتصام تم فضه بشكل حكيم ومن دون سقوط قتلى، لكن حزب خان أعلن لاحقاً مقتل 20 من أنصاره، فضلاً عن إصابة عشرات آخرين. في المقابل، ذكرت جهات أخرى أن عدد القتلى أكبر خصوصاً بعد قطع الكهرباء وغرق المدينة في الظلام خلال فض الاعتصام.
وحول ذلك، قال المحلل الأمني شفاعت علي خان، المشارك في احتجاجات باكستان إلى جانب "حركة الإنصاف" مع ثلاثة من أبنائه، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن هناك أعداداً كبيرة من الجثامين والقتلى داخل مستشفى بمز وبولي كلينك، والحكومة لا تسمح لها بأن تعلن عن العدد الحقيقي. وبرأيه فإن ما تفعله الحكومة خطير للغاية، إذ إنها تجبر الشباب على حمل السلاح لأن كل الطرق السلمية لم تعد مجدية. وأشار علي خان إلى ما كتبه الإعلامي الباكستاني مطيع الله جان على منصة إكس (تويتر سابقاً)، ومفاده بأن مصادر مطلعة داخل المستشفى قالت له إن المستشفى مُنع من إعلان أعداد القتلى والجرحى أو التعامل مع القتلى في الوقت الحالي، بل أُمر بإخفاء الجثامين. وأضاف: لذلك نرى أن الكثير من أنصار عمران خان يبحثون عن رفاقهم المختفين، لا ندري هل هم بين المعتقلين أو بين القتلى.
محمد كامران: بدا أن كل القيادات المهمة في حزب خان قد تخلت عنه
نجاح حزب عمران خان وفشله
وفي تعليق له على احتجاجات باكستان قال المحلل السياسي محمد كامران لـ"العربي الجديد"، إن حزب عمران خان حقق نجاحاً كبيراً في تحريك الشعب، إذ وصل عشرات الآلاف إلى العاصمة وأفشلوا كل خطوات الحكومة، ولكن ما أفشل حراك خان هو ضعف الإدارة وعدم وجود تنسيق بين قيادات الحزب. وأوضح الرجل أنه بدا أن كل القيادات المهمة في حزب خان قد تخلوا عنه وتركوا زوجة خان وأمين غاندابور وحدهما. لذلك، هناك غضب وسط أنصار عمران خان على قيادة "حركة الإنصاف"، إذ إن كل ما حصل كان بسبب الصراع الداخلي، والمؤسسة العسكرية والحكومة مستفيدتان من ذلك. وخرج أنصار عمران خان بقوة ولكن بعد أن خيبت قيادة الحزب آمالهم لا أظن أنهم سيلبون أي دعوة من قبل خان بهذه القوة في المستقبل. وبدا أن تلك العوامل الداخلية والتمزق جعلا الحكومة تعلن إنهاء الحوار مع خان وحزبه، حتى على موضوع ترتيب الاحتجاج والوضع الأمني، كما باتت المؤسسة العسكرية غير معنية بالحوار معه في المستقبل، خصوصاً أنها كانت تشرف على فضّ الاعتصام والاحتجاج بشكل مباشر. ولعل هذا ما جعل رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف يشكر قائد الجيش الجنرال عاصم منير ودوره في القضاء على من وصفهم بـ"جماعة من المشاغبين دخلوا إلى العاصمة".
وحول مستقبل هذا الصراع، رأى المحلل السياسي عبد الشكور لـ"العربي الجديد"، أنه يمكننا أن نقول إن المؤسسة العسكرية والدولة العميقة نجحتا بشكل كبير، وكان سبب نجاحهما أمران: إطاعة الحكومة والحرص على البقاء في السلطة مهما كان الثمن، حتى لو كان عبر إطلاق النار على أنصار حزب سياسي. وبرأيه فإنه على الرغم من قيادة حزب عمران خان احتجاجات باكستان إلا أنها لم تنجح بسبب معارضة الجيش لها. أما عن مستقبل عمران خان، فرأى الشكور أنه من المرجح أن يعلن قياديون من حزب خان انفصالهم عن الحزب قريباً، كما سيتم تشديد القضايا في المحاكم ضد عمران خان. ولم يستبعد الشكور أيضاً اعتقال زوجة عمران خان، لا سيما أن الحكومة سجلت دعوى إرهاب ضدها في المحكمة بسبب ما حصل في إسلام أباد. كما توقع أن "الحكومة المركزية، ومن ورائها الجيش، ستقضي على حكومة عمران خان في إقليم خيبربختونخوا، لأنها ورقة الضغط الأخيرة في يده".