استمع إلى الملخص
- الدور العربي والإسلامي وتأثيره: إحجام الدول العربية المطبعة عن قطع علاقاتها مع إسرائيل يعوق بناء ائتلاف عالمي، بينما تبرز دول مثل الجزائر وقطر وماليزيا في دعمها للقضية الفلسطينية.
- التفاعلات الدولية وتآكل النفوذ الأمريكي/الإسرائيلي: تزايد احتمالات تآكل النفوذ الأمريكي/الإسرائيلي مع تصاعد الصراعات الإقليمية، مما يعزز فرص تشكيل ائتلاف عالمي لدعم فلسطين.
في سياق تقويم إمكانية تدشين ائتلافٍ عالميٍ لدعم قضية فلسطين، إزاء تصاعد التحدي الإسرائيلي/ الأميركي، ثمة خمس ملاحظاتٍ؛ يتعلق أولاها بالبعد الفلسطيني، الذي يمثّل قراره بإعادة إحياء الحركة الوطنية، على أساس المصالحة بين أطرافها المتنافسة، وتفعيل المشاركة السياسية لجميع الأطراف، وإعادة استنهاض الشعب الفلسطيني كلّه، فجميعها عناصر أولية لبلورة أيّة استراتيجيةٍ فاعلةٍ للتعامل مع التحديات المتعاظمة.
بالرغم من الصمود الأسطوري للمقاومة والمجتمع الفلسطينييْن في حرب غزّة، لا يزال الانقسام وغياب الاستراتيجية يلعبان دورًا حاسمًا في تحجيم مكاسب الفلسطينيين. كذلك فإنّ أخطر ما تضمنته تهنئة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بفوز دونالد ترامب في الانتخابات الأخيرة (5/11/2024)، هي استمرار الرهان الفلسطيني الرسمي على مسار تسويةٍ برعاية واشنطن، ما يعني اجترار الأخطاء نفسها، وتجاهل الدور الأميركي/الإسرائيلي في تدجين المشروع الوطني الفلسطيني، وإدامة الانقسام الفلسطيني، ما يؤدي في المحصلة إلى تعطيل قطف ثمار "عولمة" قضية فلسطين.
تتعلّق الملاحظة الثانية بتأثير الأبعاد الرسمية العربية الإقليمية الإسلامية، وإسهامها في بناء ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين؛ إذ يبدو العائق الأكبر هو إحجام أغلب الدول المطبعة عن وقف مسارات علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية مع إسرائيل. في مقابل تميّز الأداء الدبلوماسي دولٍ أخرى، كما في الجزائر وقطر، ودعوة رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم إلى طرد إسرائيل من الأمم المتّحدة (10/11/2024)، وبيان البرلمان الإندونيسي (15/10/2024) بشأن إقصاء إسرائيل من الأمم المتّحدة، ومبادرة تركيا في الأمم المتّحدة لوقف بيع الأسلحة والذخيرة لإسرائيل، التي وقعت عليها 52 دولة وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، ودفاع إيران عن "مشروعية" المقاومة، خصوصًا حركة حماس. من ذلك كلّه يمثّل المستوى الرسمي عاملاً سلبيًّا ضاغطًا على المقاومة الفلسطينية.
تتعلّق الملاحظة الخامسة باحتمالات تآكل تأثير البعد الأميركي/ الإسرائيلي في المنطقة على بناء ائتلافٍ عالميٍ داعمٍ لفلسطين، على ضوء تفاعل عاملين
يفرض هذا المستوى (الرسمي) تحدّيًا كبيرًا أمام بناء ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين، بسبب احتمال عودة مصر والمغرب وبعض الدول الخليجية إلى "التكيّف" مع السياسات الأميركية، في ظلّ مخاوفٍ واسعةٍ من تداعيات سياسات الرئيس ترامب بشأن فلسطين، وإقليم الشرق الأوسط عمومًا، واحتمال تجديد طرح "صفقة القرن"، بعد تنفيذ إسرائيل جزءًا معتبرًا منها، سواء في مخططات ضم الضفّة الغربية إلى إسرائيل، أم الانتهاء من مشروع تهويد القدس.
تتعلّق الملاحظة الثالثة بانعكاسات حربي غزّة ولبنان على السياسات والتفاعلات الأوروبية، وثمة ستة أمثلة في هذا الصدد: 1- استمرار انقسام المواقف الأوروبية بين دعم إسبانيا وأيرلندا الشعب الفلسطيني، في مقابل دعم جمهورية التشيك والمجر الاحتلال الإسرائيلي، وعلى الرغم من اقتراح مسؤول السياسة الخارجية في الاتّحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في رسالته إلى وزراء خارجية الاتّحاد (13/11/2024) تعليق الحوار السياسي مع إسرائيل، بسبب تورطها في انتهاكاتٍ محتملةٍ لحقوق الإنسان في حربها على غزّة، فإنّ ذلك يتطلّب موافقة جميع أعضاء الاتّحاد الأوروبي السبع والعشرين، وهو أمرٌ شبه مستحيلٍ. 2- احتمال عودة الاحتجاجات والتظاهرات إلى شوارع العواصم الأوروبية، والمطالبات بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. 3- دعوة فرنسا وإسبانيا إلى وقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، على الرغم من السجال اللاحق بين بنيامين نتنياهو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تراجع عن تصريحاته. 4- دعوة أحزاب في الدنمارك إلى معاقبة إسرائيل وطردها من الأمم المتّحدة. 5 – لجوء محامين ألمان للقضاء لمنع السفينة الألمانية "إم.في كاثرين"، التي تنقل مواد متفجرة إلى إسرائيل، ورست في ميناء الإسكندرية، وكانت موجهة لشركة "إلبيت سيستمز" الإسرائيلية، بسبب مخاوف استخدامها في العدوان على غزّة. 6- المواجهات في أمستردام (7/11/2024)، بين متضامنين مع فلسطين، ومشجعين إسرائيليين لفريق مكابي تل أبيب، التي كشفت إمكانية حدوث انفجارات وموجات غضبٍ شعبيٍ في أماكن غير متوقعةٍ.
ستبقى المواقف الرسمية الأوروبية في حالةٍ من الشد والجذب والانقسام بفعل ثلاثة عوامل: صعود تيارات اليمين الشعبوي الأوروبي، بالتوازي مع عودة الرئيس الأميركي ترامب بتوجهاته الشعبوية المعروفة، وتصاعد مستوى حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة ولبنان، التي تصدم الرأي العام الأوروبي، بشأن نفاق حكوماته في ما يتعلق بمسألة حقوق الإنسان، وقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، علمًا بأنّ اقتراح بابا الفاتيكان فرانسيس، بحسب ما نشرته صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية (17/11/2024)، التحقيق في جرائم الإبادة الجماعية في غزّة، قد يمثّل ضغطًا رمزيًا في سياق دعم جهود بناء ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين.
تتعلّق الملاحظة الرابعة بإسهام القوى الدولية الأخرى (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.. إلخ)، في تدشين ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين، خصوصًا احتمال تغيّر سياساتها تجاه قضية فلسطين، ودرجة ابتعادها عن الاستراتيجية الأميركية، ومدى استعدادها لتحدي النفوذ الأميركي، ولا سيّما مع استمرار واشنطن في دعم حروب إسرائيل العدوانية، وتعزيز سياسة إعادة رسم الخرائط الإقليمية، وتصميم الحلول والمبادرات على "قياس إسرائيل"، على نحوٍ قد يهدّد مصالح القوى غير الغربية في المنطقة.
تتعلّق الملاحظة الخامسة باحتمالات تآكل تأثير البعد الأميركي/ الإسرائيلي في المنطقة على بناء ائتلافٍ عالميٍ داعمٍ لفلسطين، على ضوء تفاعل عاملين؛ أحدهما، طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظامان الدولي والإقليمي، التي تسمح، أقله نظريًا، للفاعلين الدوليين والإقليميين بتخفيف قيود بنية النظامين الدولي والإقليمي، (كما تفعل تركيا وإيران وإثيوبيا وجنوب أفريقيا.. إلخ). والآخر، بلوغ التعقيدات في إقليم الشرق الأوسط مستوياتٍ غير مسبوقةٍ، بالتوازي مع تصاعد الصراعات الإقليمية، نتيجة السياسات الأميركية/الإسرائيلية، مع احتمال خروج الأمور عن السيطرة، وبروز تياراتٍ راديكاليةٍ (جهاديةٍ، أو حتى فوضويةٍ عنفيةٍ)، نتيجة العنف الهائل الذي مارسته إسرائيل في حرب غزّة (بدعمٍ أميركيٍ غربيٍ، وصمت دوليٍ شبه مطبق).
رغم استمرار واشنطن وبرلين في تزويد إسرائيل بالسلاح، والمحاولات الأميركية المتكررة لعرقلة "عولمة" قضية فلسطين، والسعي إلى إبقائها في إطار الترتيبات الأميركية لإقليم الشرق الأوسط، ومنع معاقبة إسرائيل وعزلها دوليًا، فإن استمرار النجاح الأميركي في هذا الصدد يبقى مشكوكًا فيه؛ إذ ولّدت تداعيات حرب غزّة ديناميكياتٍ جديدةً قد تفضي إلى ميلاد دولة فلسطينية، بالتوازي مع تدشين مسار عمليةٍ عالميةٍ طويلةٍ لعزل إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها، خصوصًا بعد انضمام دولٍ عدّةٍ إلى قضية الإبادة المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، وكذلك بعد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحقّ كلّ من رئيس حكومة الاحتلال الحالي، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن السابق، يوآف غالانت.
يفرض هذا المستوى (الرسمي) تحدّيًا كبيرًا أمام بناء ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين، بسبب احتمال عودة مصر والمغرب وبعض الدول الخليجية إلى "التكيّف" مع السياسات الأميركية
يبقى القول إنّ فرص تشكيل ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين تتزايد كلما تصاعدت الضغوط الشعبية والحزبية والنقابية على صناع القرار لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، وفرض وقف حرب غزّة، بالتوازي مع العمل على رفع كلّ القيود عن أنشطة التضامن مع الشعب الفلسطيني، ما يستلزم تكثيف سياسات الاحتجاج الشعبي/الجماهيري، مرورًا بإبداع أدواتٍ جديدةٍ (تشمل الفضاء الإلكتروني والسيبراني أيضًا)، وصولًا إلى تنظيم/ترسيخ أطرٍ من التشبيك (Networking) العالمي المدني الحقوقي القانوني، وانتهاءً بــ"ثورةٍ شعبيةٍ عالميةٍ" موجهةٍ ضدّ الاحتلال الإسرائيلي والقوى الدولية الداعمة له، في ظلّ انكشاف "ازدواجية المعايير" في السياسات الأميركية/ الغربية، كما تظهره أيّة مقارنةٍ بين سياساتها في الأزمة الأوكرانية وفي قضية فلسطين، بعد 7 أكتوبر 2023.