أبو العتاهية.. رحلة ما بين التكسّب والزّهد

العربي الجديد ابو العتاهية رحلة ما بين التكسب والزهد من لم يذوق لصبابة طعماً فلقد أحط بطعمها علماً إني منحت مودتي سكناً فرأيته قد عدها جرماً يا عتبو ما أنا عن صنيعك بي أعمى ولكن الهوى أعمى والله ما أبقيت من جسدي لحماً ولا أبقيت لي عظما إن الذي لم يدري ما كل فيه ليرى على وجهي به واسمه في زاوية من زوايا التاريخ حيث تتقاطع الأرواح مع الكلمات وتخرج القصيدة من بين أنفاس الزهد والتأمل ظهر شاعر أيام العصر العباسي هناك في قلب العراق لم يكن كغيره من الشعراء ولم يرقض خلف الشهرة والمجد وحين خلع رداء اللهو والتكسب وارتدى عباءة الزهد والحكمة سعى نحو الحقيقة المطلقة وآثر التفكر بالموت والفناء أكثر مما شغل بالحياة وعلى الرغم من أن الأشعار في زمانه كانت تغنى للصلاطين وتباع للخلفاء بالثهب فضل بيع كلماته للحق وأنشدها للجميع بالمجان ومن دون ثمن إِنَّ السَّلَامَةَ أَنْ تَرْضَى بِمَا قُضِيَ لَيَسْلَمَنَّ بِإِذْنِ اللهِ مَنْ رَضِيَ المرء يأمل والآمال كاذبة والمرء تصحبه الآمال ما بقي يا رب باك على ميت وباكية لم يلبثا بعد ذاك الميت أن بكي ورب ناع نعى حين أحبته ما زال ينعى إلى أن قيل قد نعي علمي بأني أذوق الموت نغص لي طيب الحياة فما تصف الحياة لي هو الشاعر أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد ولد شاعرنا عام 748 للميلاد في منطقة اسمها عين التمر قرب مدينة كربلاء نشأ إسماعيل وترعرع هناك ضمن أسرة فقيرة وبسبب ضيق الحال انتقل برفقة أخيه إلى مدينة الكوفة وراح يعمل معه في صنع وبيع الفخار وفي تلك الأثناء بدأت موهبته الشعرية بالتفتح وظهرت عليه علامات النبوغ الأدبي ومن أجل لفت انتباه الناس إلى أشعاره صار ينقش أبياتا منها على أواني وجرار الفخار أمت صباحا أيها الشابان أمت صباحا يا سيدتي أهلا وسهلا ومرحبا تفضل يا سيدتي هل تريدين شيئا محددا لأناولك إياه؟ هل ترى تلك الجرارة هناك في مدينة كربلاء؟ في تلك الزاوية؟ نعم أراها جيدا حسنا أحضر إلي إحداها كي أشاهدها عن قرب زيت أنت أقرب إليها أرجو أن تحضر أجمل واحدة من بينها علّها تعجب السيدة حسن يا أخي سأحضر أجملها وأجودها في الحال انتقيت لك أجمل جرة قمنا بصنعها شاهديها وتمتعي بتفاصيلها الجميلة يا سيدتي يا إلهي ما أجملها هل حقا أنتم من صنعها؟ بالتأكيد يا سيدتي فنحن من أمهر صناع الفخار في هذه المدينة لكنني أرى أحرفا وجملا مكتوبة عليها ما هي القصة؟ هذه أبيات من شعر يا سيدتي أنقشها على الجرار والأواني لتصبح أكثر جمالا إن كان الأمر كما تقول فأنت بارع أيها الشاب أنت تعمل وتكتب الشعر في الوقت نفسه وهذا لا يصدر إلا عن شخص طموح وعصامي شكرا لك على هذا الإطراء يا سيدتي على العكس تماما أنا أقول الحقيقة وتسجيعا لك أريد أربع جرار زيد أحضر بقية الجرار بسرعة يا أخي حسنا يا إسماعيل سأحضرها في الحال توقف يا زيد لا تحضري الآن أي شيء أرجوكما اعتمدا أنت وأخي يا سيدتي كيعرف ما تريدان مني أن أفعل لم أفهم شيئا يا سيدتي ألم تقول بأنك تريدين المزيد من الجرار؟ بلى قلت ولكن لم أتابع كلامي فلدي شرط إن فعلته لي حينها سأشتري منك ما تريد أنا موافق إن كنت أستطيع ذلك طبعا طلبي بسيط أريد منك أن تنشد لي بصوتك ما كتبته من شعر على تلك الجرار على الرحب والسعى سأنشدها لك بكل سرور يا سيدتي الله بيني وبين مولاتي أبدت لي الصد والملامات لا تغفر الذنب إن أسأت ولا تقبل عذري ولا مواتاتي منحتها مهجتي وخالصتي فكان هجرانها مكافأتي هيمني حبها وصيرني أحدوثة في جميع جاراتي أحسنت يا إسماعيل أحسنت لقد أجدت وبرعت فيما قلت شعرك جميل جدا وباعتقادي ستصبح شاعر لامع لا محالة تمكن إسماعيل من الشعر بشكل ملحوظ وبدأ يميل للعلم والأدب بحب وشغف وتذكر المصادر بأنه لقب بأبي العتاهية لكنها تختلف في سبب التسمية منها قال بسبب ما عرف عنه في شبابه من حب لله والتسلية وبعضها نسبها للخليفة المهدي عندما قال له في أحد الأيام أراك متخلطا متعتها وذكرت مصادر أخرى أنه كان له ولد اسمه عتاهية فسمي بأبي العتاهية انتقل شاعرنا بعدها إلى مدينة بغداد وراح يتصل بالخلفاء ويطرق بابهم فتطور شعره بشكل ملفت للنظر وصنف بين كبار شعراء ذلك العصر لدرجة تم اعتباره فيها من طبقة بشار بن بورد وأبي نواس وأمثالهما مولاي الخليفة ، الشاعر أبو العتاهية في الباب ويطلب الإذن بالدخول وأخيرا وصل أبو العتاهية ادخلوا بسرعة أيها الحاجب سمعا وطاعة في الحال يا مولاي السلام على مولاي المهدي وعليك السلام يا أبا إسحاق وأخيرا أتيت لماذا تأخرت بالقدوم إلينا؟ لا لا يا مولاي ليس الأمر كما تظن بالفعل تأخرت بالمجيء لكن ما أخرني عنكم هو المرض ولا شيء آخر إن كان الأمر كذلك فلا بس والآن ألا تريد أن تسمعنا بعض من شعرك العذب يا أبا إسحاق؟ خاصة وأن الشاعر بشار بن بورد موجود في مجلسنا بالطبع يا مولاي وبكل سرور ألا ما لسيدتي ما لها أدلت فأحمل إذلالها ألا إن جارية للإمام قد سكن الحسن سربالها لقد أتعب الله قلبي بها وأتعب في اللوم عذالها أتته الخلافة منقادة إليه تجرر أذيالها فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها وإن الخليفة من بعض لا إليه ليبغض من قالها ولو لم تطيعه بنات القلوب لما قبل الله أعمالها أحسنت يا أبا إسحاق أحسنت وأجدت فيما قلت أنظر إلى أمير المؤمنين جيدا أنا لا أراه لكنني متأكد بأنه طار عن مجلسه طربا بهذا المديح أخفض صوتك يا أبا معاذ إن سمعك الخليفة سيفهم ما ترمي إليه أرجوك توقف قبل أن يطالنا غضبه بماذا تتهامسني أنت وصاحبك يا أبا معاذ ألم يعجبكم شعر أبي إسحاق؟ بالعكس يا مولاي لقد أبدع فيما قال تماما كما قال يا مولاي وكنت أقول إن قصيدة أبي إسحاق جميلة جدا وأجمل ما فيها هو ما قاله في متح مولانا المهدي أطال الله في عمره حسنا لا بأس أيها الحاجب أجزل العطاء لشاعرين الألمعي في الحال نال شاعرنا مكانة كبيرة عند الخليفة المهدي بعد أن أعجب بشعره لكن عندما رأى أبو العتاهية فتاة اسمها عطبة وهي إحدى جواري الخليفة عشقها وراح يتغزل بها في جميع أشعاره فغضب منه الخليفة المهدي وأمر بسجنه مدة من الزمن وبسبب تلك الحادثة هجر أبو العتاهية الشعر وفي تلك الفترة مات الخليفة المهدي وتسلم ابنه الهادي مكانه لكنه مات بعد عام واحد فآلت الخلافة من بعده لهارون الرشيد الذي أمر بحبس أبو العتاهية مرة ثانية عندما سمع بهجره للشعر فقبل شاعرنا أن يعود للشعر مرغما على أمل أن يخرج من سجنه لكن عندما أبطأ الخليفة الرشيد في إخراجه راح يكتب الشعر ويرسله إليه مستاطفا علّه يفك كربته ويخرجه من محنته تفديك نفسي من كل ما كرهت نفسك إن كنت مذنبا فاغفر يا ليت قلبي لديك صور ما فيه لتستيقن الذي أضمر أيها الحراس أحضر الشاعر أبو العتاهية إلى مجلسي حالا السلام على مولاي الرشيد وعليك السلام يا أبا إسحاق هل ترى حالي وكيف آلت الأمور بي يا مولاي؟ بلى، بلى يا أبا إسحاق لقد علمت بحالك من قبل أن أراك أحقا يا مولاي؟ وكيف علمت من دون أن تراني؟ لقد وصلني ما قلت من الشعر ولقيا ما لقيا في قلبي من استعطاف لذا أرسلت في طلبك كم أنا سعيد بكلامك أيها الخليفة أحقا ستعفو عني يا مولاي؟ نعم، ولكن بشرط إن فعلته سأطلق صراحك حالا أرجوك أن تقول لي ما هو لأنفذه لك فورا حسنا يا أبا إسحاق لكن الطلب بسيط ولا يحتاج لمجهود كبير منك كل آذان صاغية أرجوك قله بسرعة يا مولاي الخليفة أريد أن أسمع شيئا من شعرك هل الأمر صعب عليك؟ بالطبع لا، الأمر سهل ويسير فالشعر صنعت يا مولاي هاتي أسمعني إذن من أجمل شعر لديك إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا لك اسماني شقا من رشاد ومن هدى فأنت الذي تدعى رشيدا ومهديا بصدت لنا شرقا وغربا يد العلا فأوسعت شرقيا وأوسعت غربيا وأنت أمير المؤمنين فتتقى نشرت من الإحسان ما كان مطويا قضى الله أن يصفوا لهارون ملكه وكان قضاء الله في الخلق مقضية أحسنت أحسنت يا أبا إسحاق لقد أجدت بكلامك وشعرك أيها الحارس فك قيوده في الحال ثم أكرمك اكرمه وأجزل له العطاء لأنه بات حرا طليقا منذ الآن أثرت تلك الحادثة بأبي العتاهية كثيرا ففضل العزلة ومال إلى التنسك والزهد ثم أعرض من بعدها عن ملذات الدنيا وشغل بخواطر الموت والفناء وراح يدعو الناس للأعمال الصالحة لتكون زادا لهم في دار البقاء والخلود قطعت منك حبائل الآمال وحططت عن ظهر المطير حالي فوجدت برد اليأس بين جوانحي وأرحت من حلي ومن ترحالي الآن يا دنيا عرفت كيف ذهبي يا دار كل تشتت وزوالي حيل ابن آدم في الأمور كثيرة والموت يقطع حيلة المحتال ما بالك يا أبا إسحاق؟ لماذا أنت صامت طوال الوقت وكأنك تحاور الغيب؟ الزهد صحوة بعد غفله وما أنا سوى رجل أفاق متأخرا هل أثقلتك هموم الأيام أم ذكريات الحزينة؟ الأيام خدعتني والذكريات تثقل كاهلي كنت تملأ البيت شعرا ومرحا يا أبا إسحاق فما الذي غيرك؟ كنت أظن أن الشعر سيخلدني وأذ به يذكرني بفنائي أهو الزهد الذي أخذك منه؟ أم الدنيا هي من فعلت ذلك؟ لا أعلم لكن كل ما أعرفه أن الدنيا أغرتني والقصائد زينت لي أشياء لا تدوم لكن لا تنسى أن لي في قلبك نصيبا حتى ولو زهدت من كل شيء بالتأكيد لن أنسى ذلك طالما أنا حي أرزق أتذكر أول بيت شعر قلته لي؟ لطالما كنت تقول بأنني نورك في الظلم بلى وما زلت نورا لقلبي حتى وإن تغير مساره أحقا ما زلت ترى في ذلك؟ نعم بل وأصبحت أكثر من ذلك بكثير بدت أراك في دعائي أجمل مما كنت عليه في أبياتي وشعري لقد أسعدتني بكلامك يا أبا إسحا ولكن تذكر بأن لا تكتب عن الموت فقط اكتب عن الحب أيضا لأنه أساس الحياة وسرها إن كنت تخافين أن أبتعد فلا تقلقي لأنني سأبقى بجوارك إلى آخر يوم في حياتي وهذا ما أصب إليه ولا أريد شيئا آخر سوى حسنا إذن ولكي تطمئني أكثر تعالي لنكتب معا قصيدة لا تقال بالكلمات بل بسكينة الروح بقي شاعرنا ميالا إلى العزلة لوقت طويل وفي سنوات حياته الأخيرة راح يكتب أشعارا تفيض بالحكمة ويخاطب الموت فيها وكأنه صديق قديم لا يخافه ولكن يتهيئ للقائه مثل ما يهيئ العريس نفسه بفرح ليوم زفافه المرتقب توفي شاعرنا عام 826 للميلاد عن عمر ناهز فيه الثامنة والسبعين عاما بعد رحلة طويلة عبر خلالها من اللهو والمرح إلى الزهد والحكمة ولم تكن وفاته حدثا عابرا بل كانت نهاية شاعر عاش بين طرفين قيد وترك للأجيال القادمة كنزا من الأعمال الأدبية وأبياتا من الشعر تنبض بالحكمة وتتنفس في كل روح تبحث وتجري خلف الحقيقة نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية طفل الملوك هنا كطفل الحاشية ونغادر الدنيا ونحن كما ترى متشابهون على قدر أعمالنا تعلي وتخفض شأننا وحسابنا بالحق يوم الغاشية وغدا مصيرك لا تراجع بعده إما جنان الخلد وإما الهاوية فاختر لنفسك ما تحب وتبتغي ما دام يومك والليالي باقية