ماذا يعني توقيع دول عربية لم تقاتل إسرائيل يوماً، وليس لها حدود مشتركة معها، وحكّامها أصلاً لا يرِدون الماء إلا عشية، وبأسُهم شديد غالباً على مواطنيهم فقط، ماذا يعني توقيعها اتفاقيات "سلام" مع إسرائيل؟ يكتسب السؤال أهمية حين نذكر أن إسرائيل كانت تقود في هذه الفترة حرباً ضروساً، موجّهة ضد الفلسطينيين، بدأت بعد فشل اتفاقية أوسلو التي تنكّر لها الإسرائيليون منذ سنواتها الأولى، فقد انهارت بعد مقتل عرّابها إسحاق رابين عام 1995، ثم تولّي نتنياهو الحكم عام 1996. وقد بلغت الحرب ذروتها الأولى مع انتفاضة الأقصى عام 2002، وضرب حصار فعلي ضد مقر قيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات حتى وفاته عام 2004. تفجّر أيضاً قتال عنيف في غزّة اضطرّ معه حاكم إسرائيل وقتها أرييل شارون لإخلاء القطاع وتفكيك المستوطنات القائمة فيه.
وبالفعل، أُعلن عن توقيع الاتفاقيات التي سمّيت زوراً وبهتاناً باتفاقية أبراهام (نسبة إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام، لأنه بالقطع سيكون أول من يتبرّأ منها)، أيضاً في ظل حربٍ يشنّها نتنياهو وحلفاؤه المتطرّفون. وفي أضعف الإيمان، يكون توقيع اتفاقيات تحالفٍ ومودّة مع طرفٍ يقود حرباً حياداً في هذه الحرب، إلا أن الأرجح أنه يشير إلى نيّة انخراط في معارك الحرب لصالح الحليف. وتؤكّد التصرّفات أن هذه الاتفاقيات "الأبراهماتية" (لا نستطيع التواطؤ في التزوير بتسميتها الإبراهيمية) قصدت الانحياز إلى إسرائيل ضد أهل فلسطين. ويؤكّد هذا ما روّجه عرّابها نتنياهو وشريكه دونالد ترامب بأن "السلام" مع الحكام العرب (ولا نقول الدول العربية) هو بديل لأي اتفاقٍ مع الفلسطينيين.
وليست هذه خاصية الاتفاقيات الأخيرة وحدَها، بل كانت كل اتفاقيات "السلام" العربية مع إسرائيل، بما فيها "أوسلو"، كانت اتفاقيات حربٍ ضد الفلسطينيين أو طائفة منهم. على سبيل المثال، فتحت اتفاقية كامب دايفيد الباب، حتى قبل أن تنضُج، إلى حربٍ إسرائيليةٍ ضروس ضد منظمة التحرير. فبعد أشهر قليلة من زيارة الرئيس الراحل، أنور السادات، المشؤومة إلى القدس في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1977، نفّذت إسرائيل أول اجتياح لجنوب لبنان في مارس/ آذار عام 1978. وقد كشف مناحيم بيغن فيما بعد أن الهجوم على جنوب لبنان كان مقصوداً به اختبار جدّية السادات في نياته السلمية. وبالفعل، كان السادات عند حسن الظن، فلم يحجم عن أي دعم، ولو بالكلام، لضحايا الهجوم، بل مضى الإعلام المصري بعيداً في شيطنة منظمة التحرير وقادتها. ولم تكن ردّة الفعل المصرية الرسمية أفضل عند الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان في 1982.
ما تريده إسرائيل إلغاء حقّ العودة وحلّ الدولتين معاً
وبالمثل، كان الباعث الأساس لاتفاقية أوسلو في عام 1993 هو الهلع الإسرائيلي من الانتقاضة الفلسطينية التي قلبت الموازين، وهدّدت السند الغربي للكيان الصهيوني، نتيجة التغطية الإعلامية الإيجابية للانتفاضة كضرب مبتكر من المقاومة الشعبية السلمية كشفت وحشية النظام الإسرائيلي. تزامن هذا مع الخطر الكبير الذي بدأت تشكّله حركة حماس، التي أصبحت منافساً لمنظمة التحرير، خصوصا مع تراجع موقف الأخيرة بعد الغزو العراقي الكويت عام 1990. وعليه، قبلت المنظمة بالصفقة، التي شملت بالضرورة مواجهة مع "حماس". وقد أدرك عرفات بعد سنوات إشكالية الوضع، وأنه يحتاج "حماس" للضغط على إسرائيل التي زاد تعنّتها تجاه متطلبات حلّ الدولتين، بل حتى في تنفيذ جزئيات الاتفاقية التي لم يكن عليها خلاف أصلاً.
ويلاحظ، مثلاً، أن مصر لم تصرّ وهي تطالب باستعادة أراضيها المحتلة عام 1967 على استعادة قطاع غزّة، الذي كان في عُهدة مصر حتى حرب حزيران. وعليه، لا تقلّ مسؤولية مصر عن غزة وأهلها عن مسؤوليتها عن سيناء، وكان ينبغي أن تطالب باستعادتها أو على الأقل بأن يكون لها حضور فيها. بالقدر نفسه، لم يدخل الأردن شيئاً في اتفاقية وادي عربة عن الضفة الغربية، سوى نقاط حول الولاية على المقدّسات، وهي ولاية يعجز حالياً عن ممارستها في ظل الاعتداءات المتكرّرة على الحرم القدسي الشريف.
ربما تختلف اتفاقيات كامب دايفيد ووادي عربة عن اتفاقيات الأبراهماتيين بأن همّ الأوائل كان اتقاء شرّ إسرائيل، في حين أن الأواخر دخلوا بنية معلنة في التحالف معها، وكسب ودّها للتأثير في واشنطن، وتدعم الشركاء في حروبهم ضد شعوبهم أولاً، ثم جيرانهم ثانياً. وبالطبع، لا يعفي هذا الأوائل ممن انزلقوا بدورهم، بحيث أصبحت الاتفاقيات عندهم ديناً، يجاهدون في استدامتها حتى الشهادة، ولا يقصّرون في أداء حبّة خردل بموجبها. بل يضيفون نوافل كثيرة.
من أيّد قصف إسرائيل غزّة وتدميرها، ودعم ذلك بالمال والسلاح والدعاية، يجب أن يدفع تكاليف إعادة البناء، وأن يعوّض من قتل وجرح وأصيب وشرّد
عليه، جاءت نتيجة الاتفاقيات كلها، المتقدّمة والمتأخّرة، وخيمة على فلسطين وأهلها، وحتى المهجّرين منها، خصوصا في لبنان وسورية، فقد تكثف الاستيطان في ظلها، وتفاقم تهجير الفلسطينيين. وستكون للاتفاقيات الأبراهماتية نتائج أبشع نشهد بوادرها، من تهجير متزايد لفلسطينيي الضفة الغربية، ومحاولة لتهجير كل سكّان غزّة، بل وتهديد فلسطينيي الداخل بنزع الحقوق. فما تريده إسرائيل إلغاء حقّ العودة وحلّ الدولتين معاً. وهذا يعني أن المهجّرين في لبنان وسورية لن تكون لهم فرصة في العودة إذا تحقّقت غايات نتنياهو التي يدعمونها بأبراهماتيتهم، كما أن إسرائيل نتنياهو وبن غفير ستواصل تشريد مزيد من الفلسطينيين.
وعليه، على الأبراهماتيين، وكل المطبّعين سرّاً وعلناً، ومن يسرّون إلى نتنياهو بالمودّة ومن يعلنون، في أضعف الإيمان، تحمّل عواقب شر أعمالهم، وأن يتحمّلوا قدراً من المسؤولية عن الضحايا، وأدناها إيواء من ساهموا في تشريدهم. فعليهم إعطاء كل المشرّدين من أهل فلسطين، خصوصا المقيمين في لبنان وسورية، ومن يشرُدون من جديد، حقّ الدخول إلى بلدان التطبيع بدون تأشيرة، والبقاء هناك بصورة دائمة، والحصول على جنسية هذه الدول.
وبما أن إنهاء حلّ الدولتين يعني في نهاية المطاف (إذا استثنينا حلّ التطهير العرقي أو الإبادة) هو حلّ الدولة الواحدة، فإن على الأبراهماتيين أن يضغطوا على أحبّتهم في الكيان الصهيوني على أن يمنحوا كل الفلسطينيين المواطنة الكاملة وكل الحقوق. ومعروفٌ أن حلّ الدولة الواحدة كان برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يُقنعها "البراغماتيون" بتنازل آخر. وهو الحل الذي كان الراحل إدوارد سعيد يفضله على مهزلة أوسلو التي دعمت الاستيطان.
ولعلها مفارقة أن الدول العربية الوحيدة في العالم التي لا تمنح الفلسطينيين المقيمين فيها حقوق المواطنة، بدعوى دعم حقّ العودة. هذا مع العلم أن الفلسطينيين المهجّرين، من أصحاب المواطنة الكاملة في دول أخرى، بل حتى من حصل منهم على مناصب سياسية وبرلمانية وغيرها، هم أشدّ الناس دعماً للقضية الفلسطينية. وهذا يفنّد حجّة من يقول إن فرض الحرمان على المشرّدين هو ضمان لحرصهم على العودة هو إساءة مركّبة، حيث إنها تفترض أن الإنسان لا يحبّ وطنه ويحرص على العودة إليها إلا لدوافع مادية، كما أنها تساهم في شنّ الحرب على الفلسطيني، وتحرمه من عوامل القوة التي تدعم نضاله.
ربما تختلف اتفاقيات كامب دايفيد ووادي عربة عن اتفاقيات الأبراهماتيين بأن همّ الأوائل كان اتقاء شرّ إسرائيل، فيما دخل الأواخر بنية معلنة في التحالف معها
وهذه مناسبة لتكرار قناعتي بأن دعم حقوق الفلسطينيين وكل ضحايا الظلم في العالم ليس مسؤولية الضحايا أنفسهم، خصوصا حين يكونون تحت حصار خانق مدعوم دولياً، بل هي مسؤولية المجتمع الدولي في مجمله (وفي حالتنا العرب)، فليست مسؤولية الأسير أو راكب الطائرة المختطفة مقاتلة آسِره، لأنه بطبيعة الوضع محروم من هذه الإمكانية. بل هي مسؤولية السلطات الأمنية والجهات الحرّة. وإذا كان من في الخارج شريكاً للمجرمين والخاطفين، فمن باب أوْلى أن مسؤوليته تتضاعف.
وكنتُ قد كتبتُ، في غير هذا المكان، أطالب بجهد دولي لتحميل مرتكبي الفظائع غراماتٍ على جناياتهم، فلا يعقل أن تهدم إسرائيل المباني على رؤوس ساكنيها، ثم يطالب "المجتمع الدولي" بإيواء المشرّدين وإعادة إعمار ما دمّر. بل الواجب أن يُفرض على الجاني المجرم أن يتولى هو إيواء من شرّدهم، وإعادة بناء ما هدمه. فما هو ذنب الآخرين، خصوصا أن هناك حاجات أكبر لضحايا الكوارث الطبيعية من زلازل وعواصف ومجاعات وفيضانات، إلخ؟ فعلى المسؤولين عن الكوارث من صنع البشر أن يتحمّلوا مسؤوليتهم، لأنهم، بخلاف ذلك، يحملونها للمعدمين وضحايا الكوارث الطبيعية الذين يخسرون بسبب تحوّل الإعانات إلى الضحايا الجدد.
المهم أن على كل من يدعم جرائم الحرب والإبادة والتطهير العرقي وبقية الكبائر، من العرب أو العجم، أن يتحمّل المسؤولية عن خياراته وآثامه، فمن أيّد قصف إسرائيل غزّة وتدميرها، ودعم ذلك بالمال والسلاح والدعاية، يجب أن يدفع تكاليف إعادة البناء، وأن يعوّض من قتل وجرح وأصيب وشرد. ويدخل في ذلك الأبراهاماتيون. على كل هذه الدول أن تستقبل الجرحى الذين يحتاجون العلاج، واللاجئين المشرّدين، وأن تعوّض كل مصاب وأسر القتلى، إن وُجدت طبعاً، لأن إسرائيل تتعمّد إفناء أسر بكاملها.