في محاولة جعل الخارج مصدراً للشرعية

08 ابريل 2025

عناصر من الأمن العام السوري في اشتباك مع فلول من نظام الأسد في اللاذقية (7/3/2025الأناضول)

+ الخط -

في لحظة تحوّل حاسمة وخاطفة، أعادت القوى العسكرية، الممثّلة وقتها بعملية ردع العدوان، تشكيل معادلة الحكم في سورية، مدفوعةً بمتغيّراتٍ لم يكن أحدٌ ليتصوّر تحقّقها خلال المائة يوم الماضية. أعاد هذا الواقع الجديد تعريف مفاهيم الشرعية ومصادرها، في سياقٍ يتجاوز التصوّرات التقليدية عن السلطة والتوقّعات لجميع السوريين، حتى الذين تمكّنوا من إسقاط النظام وجدوا أنفسهم فجأة في دمشق والشعب السوري يحيط بهم ويحتفل بانتصارهم. ... كانت التحوّلات سريعةً وعنيفةً، ولم يكن أحد من السوريين (كلّ السوريين) جاهزاً لها.
منذ انتقلت هيئة تحرير الشام من كيان عسكري يعمل خارج المنظومة السياسية إلى فاعلٍ يسعى إلى تقديم نفسه جزءاً من الدولة، برز سؤال جوهري: كيف يُبنى الاستقرار في ظلّ هشاشة داخلية متزايدة؟ مع تولي أحمد الشرع قيادة المشروع، أضحى التحدّي مركّباً بين إعادة تموضع الداخل السوري واستجابة الخارج المتحفّظ، فالجرح المجتمعي العميق، الذي فاقمته المجازر في الساحل أخيراًً، لا يمكن رأبه عبر إجراءات شكلية تقتصر على تشكيل لجنة تحقيق يبدو من تصريحات الناطقين باسمها (حتى الآن) أنها تراوغ لإخفاء المقتلة التي وقعت تحت شعار الغضب المتفجّر عقب عملية الغدر بعناصر الأمن الوطني السوري في الساحل. كان بإمكان القائمين على الأمر القيام بعدّة أشياء، بدلاً من صناعة سياقٍ موحّد للمجزرة وربطها بالجريمة التي وقعت في محاولة للتعمية على الظلم الذي يحيط بالسوريين العلويين أينما كانوا (حتى في دمشق البعيدة استُهدف بعضهم بذات الحجّة). أصبح الإصلاح وضمان الوحدة الوطنية يتطلّب مشروعاً سياسياً يتجاوز ثنائية الإقصاء والاستحواذ، والقيام بخطواتٍ رمزية كإعلان الحداد، وخطوات عملية كإعلان المنطقة منكوبةً. بالتوازي، تتواصل المفاوضات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول رفع العقوبات، ما يضع النظام الجديد أمام معضلة كبرى: هل تُبنى الشرعية عبر التنازلات للخارج، أم عبر استعادة الداخل المنهك بمصالحة حقيقية؟... الشرعية هنا ليست مجرّد اعتراف قانوني، بل ديناميكية اجتماعية تتفاعل مع السلطة في إطار سياقٍ متحوّل، إذ لم يثبت التاريخ استقرار أنظمة استمدّت مشروعيتها من إرادة غير إرادة شعوبها.
في ظلّ هذه الجدلية، يُختبر مفهوم "الشرعية الدولية" بوصفه أداةَ ضغط أكثر منه معياراً موضوعياً. فالنظام الذي يجعل وجوده مرهوناً برضا الخارج يصبح هشّاً، متغيّراً بتغير المصالح الدولية، لا بصمود قاعدته الاجتماعية. على العكس، فإن الشرعية التي تُبنى من الداخل، على قاعدة المصالحة لا الإقصاء، والتعدّد لا التصنيف، وحدها القادرة على مقاومة المتغيّرات. إن السلطة التي لا تعكس مجتمعها، بل تكتفي برؤية نفسها عبر أعين القوى الكبرى، تفقد سيادتها، حتى لو رفعت شعارات الاستقلال. فالتاريخ أثبت أن الأنظمة التي سعت لاكتساب مشروعيتها عبر الخارج تحوّلت أدواتٍ في لعبة الآخرين، لا كياناتٍ سياسيةً ذات سيادة.
ليست التنازلات الداخلية علامةَ ضعف، بل تجسيد لقدرة السلطة على التفاوض مع ذاتها قبل أن تفاوض الآخرين. أمّا الشرعية التي تأتي منحةً خارجيةً، فهي ليست سوى تأجيل مؤقّت للانهيار، لأن من يمنحها اليوم قد يسحبها غداً وفقاً لمصالحه. إن جوهر السيادة لا يُقاس بمدى تحدّي الخارج، بل بمدى القدرة على احتواء الداخل وتحويل تنوعه مصدرَ قوّة. فالتنازل للمواطنين ليس انكساراً، بل تأسيس لحائط صدّ يحمي الدولة من الابتزاز الدولي. الدولة التي تعيد بناء نسيجها الوطني بعيداً من سياسات الإقصاء والنبذ، ترسل رسالةً واضحةً: شرعيّتها لا تُمنح، بل تُصنع، ليس في العواصم البعيدة، بل هنا، بين الناس، الذين يمنحونها معناها الحقيقي.
لم يعد المجتمع الذي خضع لستّة عقود من مركزية السلطة كياناً متجانساً، بل فسيفساء من الهُويَّات المكبوتة التي انفجرت مع أول تصدّع في البنية السلطوية. وهكذا، ليس تماسكه الظاهري دليل قوة، بل انعكاس لآليات الضبط التي جعلت الاستقرار مرتبطاً باستمرار القمع، لا بوجود عقد اجتماعي متجدّد. في هذا السياق، لم تعد الدولة مشروعاً توافقياً، بل باتت بنية قابلة للتفكيك وإعادة التشكيل بحسب مسارات السلطة لا وفقاً لإرادة شعبية حقيقية، ممّا يجعل استدامة أيّ نظام جديد مرهونةً بقدرته على إعادة إنتاج شرعية لا تقوم على الإكراه، بل على احتضان التعدّدية بوصفها شرطاً للتماسك لا سبباً للانقسام.

سمر يزبك
سمر يزبك
سمر يزبك
كاتبة وروائية وإعلامية سورية
سمر يزبك