فيروز السورية شأناً سياسياً
نكاد أن نكون شبه متأكّدين أننا نحبّ فيروز أكثر مما يحبّها غالبية اللبنانيين، ومتأكّدين تماماً من أننا نحبّها أكثر بكثير مما يحبّها باقي العرب. كانت فيروز رفيقة السوريين في كل مكان ووقت، لا يكاد يوجد سوري واحد من أبناء جيلي أو الأجيال التي عاصرت أوج تجربة الرحابنة لا يحفظ أغانيها. نشأنا مع صوتها الذي تحوّل، في وقت ما، إلى ما يشبه نقطة الجذب التي يلتقي عندها السوريون جميعاً، أو لنقل: نقطة الضوء الوحيدة التي يتلقف السوريون بريقها، ما إن يلوح لهم من بعيد؛ نسمعها في البيوت وفي الإذاعة وفي المدارس وفي المقاهي وفي وسائل النقل الخاصة والعامة، نقضي سهراتنا ونحن نستمع إليها أو نغني أغنياتها. ما من صوت سوري جميل لم يغنّ لها، ما من عازف موسيقي لم يعزف ألحان أغانيها. ضمّن كثرٌ من الشعراء السوريين كلمات أغانيها في قصائدهم. أحبّ السوريون فيروز كما لو أنها ابنتهم أو شقيقتهم أو ملاكُهم الحارس. كما لو أنها حرزهم الوحيد وأيقونتهم النادرة، أحبّ السوريون فيروز كما لو أنها هوية أجمعوا عليها من دون أن يرتب أحد لهذا الإجماع غير صوتها الذي كان للسوريين بمثابة صلاة؛ قدّسها بعضهم إلى حد أنه قد يعادي من يصرّح أمامه بأنه لا يحبّها ولا يستسيغ أغانيها. لا ديمقراطية ولا رأي آخر في ما يتعلق بها، وكأنها كانت هي الولاء الحقيقي لسوريين كانوا مضطرّين لإعلان ولاء لا يطيقونه للنظام الحاكم، الذي كان هو أيضاً، للمفارقة، يحبّ فيروز مثل باقي الشعب.
مرتبكةٌ تلك العلاقة التي ربطت هذه الأجيال من السوريين بفيروز، مرتبكةٌ لأنها مرتبطةٌ بشكل كبير بالسياسة، وهو ما لم يدركه السوريون قبل 2011، ليس لأن فيروز كانت المطربة المفضلة للنظام، لكن لأنها قدّمت للسوريين ما لم يقدّمه أي مطرب سوري أو عربي آخر: قدّمت لهم فخراً بسورية لم يعرفوها إلا عبرها، غنّت فيروز للشام كما لم يغنّ لها أحد، غنّت للشام بوصفها تاريخا وحضارة ومستقبلا، غنّت للشام المفردة التي لا ترتبط سوى بنفسها، لا للشام أو لسورية الملحقة بالأسد. وحدَها فيروز من أعطت السوريين أغنيتهم الوطنية، كل من عداها، من دون استثناء، غنّوا لسورية الأسد، حتى عمالقة الفن مثل محمد عبد الوهاب في أغنيته الشهيرة المهداة إلى سورية: يجعلها عمار، لم يغفل ذكر الأسد. كان هذا التميز الفيروزي فارقاً جدّاً مع السوريين، جعلهم ينظرون إلى فيروز بوصفها الكنز الذي أعاد الاعتبار لسوريّتهم التي تماهت حد الاختفاء مع حافظ الأسد.
هذا شأنٌ سياسيٌّ بحت، مهما قلنا إن فيروز شأنٌ فنيٌّ له علاقة بالذائقة. ذلك أن كل ما غنّته عن الشام أو سورية كانت مرجعيته أيديولوجيا سياسية، كان الأخوان رحباني وسعيد عقل وفيروز نفسها شديدي الارتباط بفكر أنطون سعادة، بقوميّته السورية، الشام التي غنّتها فيروز هي شام سعادة، وسورية التي أحبّها السوريون في صوتها هي سوريا الكبرى، هكذا التقى حلم السوريين بسورية لهم، لا لآل الأسد بحلم القوميين بسوريا الكبرى. إنها لحظة في عمق السياسة. وهذا أمرٌ في غاية الارتباك يصعُب القبض عليه في وقته؛ كان يحتاج إلي حدثٍ عظيم يشبه حدث الثورة السورية كي يتم فهمه. في الثورة، استرجع قسم كبير من السوريين سوريّتهم المفقودة بوصفها سورية فقط، لا سورية الأسد ولا سورية الكبرى. هكذا انزاحت فيروز إلى الخلف، لم يعودوا يحتاجونها ليشعروا بالفخر، كان الفخر بسورية موجوداً بأصواتهم هم، بالأغاني التي ردّدوها في المظاهرات، بسورية بمحافظاتها وبلداتها كلها، لا بالشام فقط، كما كانت في أغاني فيروز. من بقي وفيّا لها منهم شفّاها من كل أيديولوجيتها وأحبّها لماهيّتها صوتاً مرتبطاً بذاكرة لا يمكن تجاهلها. أما مؤيدو النظام فقد زادوا في تقديسها وأيقنتها لأنهم أيضا لا يملكون بديلاً وطنياً عنها يذكّرهم بسورية التي يقولون إنهم يدافعون عنها، فكلّ ما عداها زاد في ارتباط سورية بالأسد (الابن هذه المرّة)، وهو ما كانوا يحاولون نفيه عنهم بقولهم إنهم يحمون سورية لا كرسيّ الأسد.