الدعارة سياسةً "واقعيةً"
(عاشور الطويبي)
تنطوي الرأسمالية على تناقض جوهري بين اعترافها النظري بالمساواة بين البشر وجنوحها العملي إلى التفرقة بينهم كي يتمكّن صاحب رأس المال من تحويل جهود غيره أموالاً متراكمةً. من هنا نجحت الرأسمالية في أطوارها "كلّها" في إعادة إنتاج التفرقة بين السادة والعبيد في أشكال أكثر جاذبية ووحشية في آن، وباتت العبودية قدَر الحياة العصرية، ولم يفلت منها أحد. حتى الأغنياء، "السادة"، نجحت الرأسمالية في تعبيدهم لمن هو "أسيد"، عبودية المدين للمصارف وشركات "الكريدت كارد"، ورهن حيوات البشر لسداد أقساطهم. والعبودية الرقمية التي تحوّل "الزبون" سلعةً، وتبيع بياناته وسلوكه وحياته الخاصّة، وتمسخه قرداً اصطناعياً يتقافز فوق أشجار "الترافيك"، والعبودية الاستهلاكية، إذ تتشكّل هُويَّة الأفراد وفق ما يستهلكونه، وتتحوّل أجسادهم وحداتٍ إعلانيةً متنقّلةً لبراندات عالمية، ملابس، وهواتف، وساعات يد، وأحذية، ويتحقّق وجودهم الاجتماعي حسب قدرتهم الشرائية، ويصبح احترامهم رهن العلامة التجارية، وموقعها من السلم الرأسمالي. هذا عن عبودية الأغنياء في بلاد السادة، فما بالنا بعبودية المُعدَمين في بلاد المُستعبِدين "الأثرياء"؟
نشرت "بي بي سي" السبت الماضي (20/9/2025) تحقيقاً تلفزيونياً بعنوان "الوجه المظلم لتجارة الجنس في دبي"، تفاصيل مرعبة عن فتياتٍ يجلبهن النخّاس الرأسمالي الجديد من بلاد فقيرة كي يجدن فرصة عمل، فيتحولن فرائسَ ميول جنسية وحشية، حتى يصل الأمر إلى مطالبتهن بلحس براز أسيادهن، حتى تتحقّق للسيد متعة ما، "بفلوسه"، ولا يكتفي العبد الثري بذلك، بل يصوّرهن، فإذا انكشف أمرُه على يد إحداهن، أو تسرّب الفيديو، عاقب ضحيته بإلقائها من أبراج دبي الشاهقة، وسُجّلت الجريمة انتحاراً. دار تحقيق "بي بي سي" حول فتاتين من أوغندا، وكشف قتلهما بهذه الطريقة، وشخصية النخّاس الذي جلبهما، ثمّ تواطأ في قتلهما، ورأى التحقيق أيضاً دور شرطة دبي سكوتاً وتواطئاً وتهرّباً من الردّ أو التفسير، فذلك يحدث (وسيحدث)، وليست "مونيكا" (ولا غيرها) أول ميتة، ولن تكون الأخيرة، كما ورد على لسان النخّاس في فيلم الرعب الذي كانت لحظات مشاهدته مؤلمة وموجعة ومقزّزة، لكنّها لم تكن أبداً مدهشةً أو مفاجئةً (لماذا؟).
تبدو الانحيازات "الواقعية" متشابهة، انحيازات السياسة، وانحيازات الاقتصاد، وانحيازات الاجتماع، وبما أنها (وفق أصحابها) واقعية، فهي تدور حول الممكن والمتاح وفق الخيال السياسي لصاحبها، وفكرته عن نفسه، وعن قدراته، وعن استعداداته، من هنا تأتي الانحيازات في صورها المختلفة متجاوزة الاستبداد إلى المافياوية، والتطبيع إلى التصهين، والرأسمالية المتوحّشة إلى الفاجعة الوجودية، والتراجع أمام إكراهات العدو إلى التنافس في إرضائه.
ثمّة اتفاق بين المنشغلين بدراسة ظواهر الاستبداد من ابن خلدون إلى الكواكبي، ومن نيتشة وفرويد إلى فرانز فانون وإريك فروم، خلاصته أن من يتعرّض للقهر على يد الأقوى سوف يبحث عن الأضعف ليقهره، فإذا كان نموذج التنمية "المسموح به" أن تكون بلادنا سوقاً لبضائع السيد الغربي، ومراحيض لفضلاته، فلن يكون مدهشاً أن يتطلّع مرحاض إلى من يلعقه، فالحاجة إلى تعزية النفس أيضاً واقعية.
من هنا يمكنك أن تعيد تعريف الكلمات والأشياء وفق الممكن، والمتاح الغربيين، خصوصاً إذا كنت مستهلكاً، عالةً، عاجزاً عن إنتاج تجربتك، أو مقاومة حاجتك إلى العبودية الواقعية، التي هي شرط سيادتك المتخيّلة. ومن هنا أيضاً يمكنك أن تفهم لماذا لاعق البراز سيّدا؟ ولماذا المقاوم متهوّراً وعنترياً وحنجورياً… وإرهابيا؟ ولماذا يتحدّث بعضنا وسط حرب إبادتنا عن خيالنا (نحن!) الإبادي، الذي يستهدف إزاحة المحتلّ الذي يبيدنا واقعاً يومياً لا خيالاً زائفاً؟ ولماذا عليك أن تساوي بين "حماس" والصهاينة، وبين القوميين العرب والصهاينة، وبين الإسلاميين والصهاينة، وبين كل من يرتفع صوته رفضاً أو مقاومة لتحويله مرحاضاً، ولماذا العاصمة الإدارية والمونوريل بالديون، ولماذا "العربية" و"سكاي نيوز"، وأحمد موسى وأسامة الدليل؟ كل هذا القبح يأتيك برعاية "واقعيين" يفضّلون أن يحيوا مراحيض على أن يموتوا "احتمالاً"، طلباً لحياة أكثر كرامة، وحريات أكثر إنسانية من حرية اللحس.