''صحوة ضمير'' أوروبيةٌ متأخّرة
احتجاج حاشد لدعم غزّة وضد تجارة الأسلحة مع إسرائيل في مدريد (10/5/2025 Getty)
كانت الحكومات الأوروبية واضحةً في تأييدها دولة الاحتلال في حربها على قطاع غزّة بعد 7 أكتوبر (2023)، فلم تتأخّر في تبنّي روايتها، على ما فيها من ثقوب، معتبرةً هجوم المقاومة الفلسطينية على العمق الإسرائيلي ''إرهابياً مروّعاً''. وعلى الرغم من توحّش آلة القتل الإسرائيلية، وحالة الدمار الهائل التي بات عليها القطاع، وسقوط عشرات آلاف من الشهداء، ومئات آلاف من الجرحى والمشرّدين والمُجوَّعين... على الرغم من ذلك كلّه، بقيت المواقف الأوروبية (في مجملها) تتحرّك ضمن الرواية الإسرائيلية، قبل أن يطرأ عليها تحوّلٌ، بدرجاتٍ متفاوتة، وتحديداً بعد استئناف دولة الاحتلال حربها على غزّة في 18 مارس/ آذار الماضي.
كان التحوّل الأكثر دلالةً في مواقف الحكومات الأوروبية ما أعلنه رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، منتصف الشهر الماضي (مايو/ أيار)، حين وصف إسرائيل بأنها ''دولة إبادة جماعية''، وهو ما مثّل تحوّلاً نوعياً، إن لم نقل ثورياً، في معجم تعاطي النُّخب الأوروبية مع حرب غزّة. بعدها ستدعو حكومات أوروبية إلى إنهاء الحصار على غزّة والسماح بدخول المساعدات الإنسانية ووقف الحرب وتفعيل حلّ الدولتَين، قبل أن تدعو إسبانيا وسلوفينيا وإيرلندا والنرويج إلى قبول العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، من دون السهو عن تلويح الاتحاد الأوروبي بمراجعة شاملة لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل بسبب خرقها بند احترام حقوق الإنسان المضمّن في الاتفاقية. والثلاثاء الماضي، أعلنت بريطانيا والنرويج، إضافةً إلى كندا وأستراليا ونيوزيلندا، فرض عقوباتٍ على الوزيرَين الإسرائيليين، بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، بسبب تحريضهما ضدّ الفلسطينيين.
هناك أسباب متداخلة، يمكن من خلالها فهم ''صحوة الضمير'' الأوروبية (المتأخّرة) هاته. فمن جهة، تستشعر النُّخب الأوروبية تحوّلاً هادئاً في الرأي العام، ليس بشأن الحرب فقط، بل أيضاً بشأن الصراع وملابساته التاريخية والثقافية، ما يُفسح المجال أمام أسئلة الشرعية الأخلاقية والسياسية ذات الصلة بالكيانية الإسرائيلية. وقد كان لافتاً التراجع البادي في تأييد هذا الرأي العام دولةَ الاحتلال، وفق أكثر من استطلاع رأي. ولعلّ مكمنَ الخطورة في هذا التراجع تحوّل هذا الرأي العام (أو جزء منه على الأقلّ) نحو تبنّي الرواية الفلسطينية. ذلك أن استهداف المدنيين، العزّل، بالتقتيل والتشريد والتجويع والتعطيش والحصار، يعكس استراتيجيةً استيطانيةً مدروسةً تتوخّى دفعهم إلى حافّة اليأس، بما يفتح الآفاق أمام التهجير، الذي لا يعني غير حسم المعركة الديمغرافية التي تُعدّ أحد مداخل فهم الصراع وتعقيداته.
في السياق، بات التوحّش الإسرائيلي عنواناً لدولة خارجة عن القانون الدولي، لا يكترث قادتها من اليمين الديني (المتطرّف) للمعايير الأخلاقية والقانونية والدبلوماسية. ما يعني، بالنسبة إلى هذا الرأي العام، سقوط السردية الغربية برمّتها، بشأن كلّ ما له صلة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
من جهة أخرى، تتخوّف النُّخب الأوروبية من أن تشكّل القضية الفلسطينية مدخلاً لإعادة صياغة الوعي الأوروبي تجاه قضايا الشرق الأوسط والجنوب عموماً، بما يعنيه ذلك من إعادة طرح الخطاب الاستعماري خطاباً غربياً يتبنّى المشروعَ الصهيوني ويمنحه الغطاء السياسي. يتعلّق الأمر، إذاً، ببوادر تصدّع قد تصبح بعض بلدان أوروبا عرضة له في مقبل الأيّام؛ تصدّع ينطلق من سؤال عريض تطرحه الأجيال الحالية والقادمة: كيف سمحت حكوماتنا ونخبنا التي ترفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان بإبادة عشرات آلاف من المدنيين؟ كيف سمحت بمنع الدواء والغذاء والمساعدات الإنسانية عن سكّان غزّة في انتهاك غير مسبوق للقانون الدولي الإنساني؟ لقد فتح التواطؤ الأوروبي الإسرائيلي المجال لتصبح التراجيديا الفلسطينية في قلب الوعي الأوروبي، وقد لا يكون من المبالغة القول إن النُّخب الأوروبية (أو بعضها على الأقلّ) باتت تدرك فظاعة ما أتته بتجاهلها محرقة غزّة.
لا يزال التحوّل المذكور في مواقف حكومات أوروبية، على أهميته، بعيداً من أن يُحدِث ثغرةً في جدار التعنّت الإسرائيلي. غير أن انخراط حكومات أخرى في هذا التحوّل قد يجعل مواصلة الحرب بالنسبة إلى دولة الاحتلال أمراً مكلفاً جدّاً في المنظور البعيد.