سورية الجديدة والتحوّلات في المحاور الإقليمية

كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.
قديماً وحديثاً، لسورية، بهذه التسمية أو الحدود أو تلك، مكانةٌ مركزيةٌ في سياسات (وصراعات) الكيانات والقوى السياسية الفاعلة في المشرق العربي، وأبعد. بسبب تاريخها وثقافتها، كما بسبب موقعها وما يجاورها من دول، عربية وغير عربية، كما بسبب ما تنحاز إليه أو تجافيه من محاور السيطرة والنفوذ في الإقليم. وتبعاً لذلك، لا غرابة أن تكون للتحوّلات السياسية الجارية منذ الثامن من ديسمبر (2024) انعكاسات بعيدة المدى على دول المشرق العربي بخاصّة، وعلى الدول غير العربية المجاورة بعامّة. ولنقل: منذ هذا اليوم، تحرّك بندول التقارب والتباعد الجغرافي/ السياسي كثيراً. وجاءت حركات البندول باتجاهَين، داخلي وخارجي. للأول علاقة باقتلاع نظام حكم استبدادي من الجذور، نظام حكم قهر العباد وأفقر البلاد، نظام حُكم السجون والتعذيب والاغتيال والإخفاء القسري للمعارضين، نظام حُكمٍ يتحمّل المسؤولية عن تنزيح ما يقارب نصف سكّان البلاد وتهجيرهم. وخارجياً، وبين ليلة وضحاها، وفي قفزة كبيرة، ابتعدت سورية عن المحور الإيراني/ الشيعي بقدر ما انجذبت نحو المحور التركي/ الإخواني. ولهذا الابتعاد وذاك الانجذاب أصداء غير خافية في دول كثيرة في المنطقة، وعلى مستويات عديدة، وكان الصدى مباشراً ومدوّياً في لبنان.
في غياب مصادر بديلة للسلاح الروسي، هل تتجرّأ القيادة السورية على طلب التعجيل بتفكيك القواعد العسكرية الروسية؟
صباح 8 ديسمبر، تنفّس السوريون حرّية حُرِموا من نسائمها الرطبة فترةً لا تقلّ عن جيلَين. صباح ذلك اليوم، هرب البطريرك بما حمل ونهب، وتداعى نظام حكم الاستبداد، الذي كرّسه بعد أن ورثه عن أبٍ ربّما كان أكثر ذكاءً، وإن لم يكن أقلّ ظلماً. في ذلك الصباح، رحل نظام حكم الاستبداد المطلق، وما يغذّيه ويتغذّى عليه من الفساد المطلق. وفرح السوريون، داخل البلاد وخارجها، بالخلاص من حكم البطريرك في خريفه. وفرح لهم بهذا الخلاص كثيرون من العرب وغير العرب. لكنّ هذا الفرح لم يكن بالطبع نقياً، إذ اختلط بمشاعر الحزن على فقدان الأقارب والرفاق والأصدقاء الذين سقطوا في الطريق، والخوف من هول تحدّيات الأيام التالية، تحدّيات ذات علاقة بإعادة بناء ما دُمِّر أو خرّب خلال السنوات الماضية، وفي مقدمتها إعادة بناء الجيش الوطني والاقتصاد الوطني والنظام السياسي الجديد، وإعادة النازحين إلى ما تبقّى من منازلهم، والمهجّرين إلى أحضان وطن أخذ يفتح ذراعيه لاستقبالهم. تحدّيات هائلة يحتاج الردّ المناسب عليها إلى كثير من الدعم الخارجي والتضامن الداخلي، وغير قليل من الوقت والمال والحكمة العملية في إدارة شؤون البلاد والعباد.
ولا تقلّ التحدّيات الخارجية، في هولها، عن التحدّيات أعلاه، وهي غير قابلة للانفصال عنها، فالدعم المالي اللازم لإعادة البناء لا يهبط على "طبلية من السماء" استجابة لدعاء أو رجاء من يحتاج إليه؛ والسلاح اللازم لإعادة بناء الجيش الوطني لا يُباع في الأسواق الحرّة، ومن احتل أرضاً سورية أو أقام قاعدة عسكرية فيها، لغرضٍ في نفس يعقوب، لن يهرع للانسحاب، لأن السوريين توّاقون لإعادة توحيد بلادهم، وممارسة السيادة الحصرية عليها. المال والسلاح ووحدة البلاد والسيادة الحصرية عليها أهدافٌ غير قابلة للانفصال عن طبيعة نظام الحُكم، الذي سيُعمل لإنجازه، تماماً كما هي غير قابلة للانفصال عن موقع الدولة السورية الجديدة وموقفها من محاور النفوذ والسيطرة المتنافسة أو المتصارعة في الإقليم وفي العالم الأوسع. ومع التسليم بانسحاب سورية الجديدة من المحور الإيراني/ الشيعي، تبقى هناك جملة من المعضلات/ الأسئلة ذات العلاقة بمدى التداني من (أو التجافي عن) المحاور الأخرى وتبعات ذلك:
أولاً، بقدر بعدها عن المحور الإيراني/ الشيعي، تقترب سورية الجديدة من المحور التركي/ الإخواني. ولهذا الاقتراب غير القابل للخطأ تبعات بعيدة المدى على المستويات المختلفة، السياسية والاقتصادية والديموغرافية، وربّما العسكرية أيضاً.
ثانياً، ومع بعدها عن المحور الإيراني/ الشيعي تقترب سورية الجديدة أيضاً من المحور المصري/ السعودي. ولكن درجة الاقتراب من هذا المحور هي الأهم هنا، فكلّما كان الاقتراب أكبر وأعمق حصلت سورية الجديدة على الدعم المالي اللازم لإعادة الإعمار من دول الخليج، وكلما ارتاحت علاقاتها مع الدول العربية المجاورة، الأردن ولبنان الجديد، وربّما العراق أيضاً. وفي المقابل، كلّما طغت غلبة الإسلام السياسي على المشهد السياسي السوري الجديد كان التداني مقيّداً ومحدوداً، ومثله الدعم المالي والاحتضان السياسي.
ثالثاً، ومن أين يأتي السلاح اللازم لإعادة بناء الجيش الوطني، وكذلك المال اللازم لذلك، إذا توتّرت العلاقات، "وتعطلّت لغة الكلام"، بين قيادة سورية الجديدة والقيادة الروسية؟ وفي غياب المصادر البديلة المتأهبة لتزويد الجيش السوري بالسلاح، السلاح اللازم أيضاً لمواجهة العدوان الإسرائيلي، هل تتجرأ القيادة السورية الجديدة على الطلب من روسيا التعجيل في تفكيك قواعدها العسكرية في سورية وإخلائها؟
رابعاً، يتعلق التحدّي/ السؤال الكبير بالنظام السياسي الذي يتوجّب السعي الدؤوب نحوه، ويتسنّى من خلاله تأكيد حماية الحقوق المتساوية للمواطنين السوريين جميعاً، من جهة، واحترام الحقوق الجماعية للأقلية الكردية، في إطار الدولة السورية، من جهةٍ أخرى، فاستبدال حكم عائلة الأسد الاستبدادي بحكم استبداد من نوع آخر، إخواني أو غير ذلك، لا يفي بأي غرض بعد الدمار المهول الذي حصل، والدماء الغزيرة التي سالت، خلال 14 عاماً؛ ونظام حُكم لا يقبل به الكرد السوريون يظلّ قاصراً عن تحقيق وحدة البلاد المشتهاة، أو تبديد الهواجس المعروفة لتركيا في هذا الشأن.
تمضي سورية الجديدة على الأرجح في الطريق نحو التحوّل الديمقراطي، وتضغط من أجله نخب لا تقبل التنازل عنه
وإذا أخذنا بالاعتبار التحدّيات التي تواجهنا في سورية الجديدة، الداخلية منها والخارجية، وأيضاً فرح الغالبية الساحقة من السوريين، داخل حدود سورية وخارجها، بالخلاص من استبداد نظام الحكم الأسدي، لتوصلنا إلى استنتاج مفاده التالي: ... سورية الجديدة، على الأرجح، في الطريق نحو التحوّل الديمقراطي، تحوّل تضغط من أجله النخب السياسية وغير السياسية السورية، التي لا تقبل التنازل عنه، تحوّل وعد به قادة المرحلة الانتقالية، ولا يستطيعون التنكّر له؛ وتحوّل ديمقراطي يفتح أبواب سورية أمام أوروبا والعالم الأرحب، ويبطل وصمها بالدولة المنبوذة أو المارقة. هذا الطريق نحو التحوّل الديمقراطي يواجه، بالطبع، عقبات ومطبّات وتعرّجات كثيرة، ولا يحدث عادة بالسرعة أو السلاسة المرجوة. ولكنّه، طريق الآلام الواعد والأقدر على تحقيق وحدة البلاد وحماية حقوق المواطنين، بغضّ النظر عن الجنس أو العرق أو المذهب. وربّما كان هو الطريق الأنسب أيضاً لمواجهة كثير من التحدّيات الخارجية المذكورة سابقاً.
كان فرح السوريين بالخلاص من نظام حُكم استبداد عائلة الأسد كبيراً، رغم اختلاطه بمشاعر الحزن على خسائر وآلام الماضي، والخوف من المقبل، وما قد يحمل في طيّاته من المخاطر. ولكن رغم ذلك الخليط من المشاعر فإن الشعور بالفرح يظلّ طاغياً. ولا غرابة أن يشاطر الفلسطينيون واللبنانيون، أكثر من غيرهم من العرب، هذا الفرح الكبير، لأنهم جرّبوا على لحمهم وجلدهم ما جلبه حُكم استبداد عائلة الأسد من الويلات على مدى نصف قرن. وهناك ما يبرّر الاعتقاد بأن شعباً انعتق من حُكم بطريرك مستبدّ لن يرهن حرّيته أو مستقبله بيد بطريرك مستبدٍّ آخر، حتى لو وعد "بقطف الشرف من القمر".


كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.