دعوة أوجلان إلى السلام ومصير الصراع
أكراد يتظاهرون في ذكرى اعتقال أوجلان شرقي فرنسا (15/2/2025 فرانس برس)
قبل نهاية القرن الماضي بقليل، نشبت أزمة بين تركيا وسورية بسبب وجود زعيم حزب العمّال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في دمشق. كان حافظ الأسد قد احتضنه، وأمّن له مراكزَ تدريب في سورية ولبنان، ليستخدمه ورقةً في وجه تركيا، وكان هذا أسلوباً مفضّلاً عند الأسد الأب، يستعمله على الدوام للضغط، أو لكسب النقاط، ما دام أن ذلك كان متاحاً. ولكن تركيا التي عانت سلوك حزب العمّال الإرهابي كانت تعرف مكان أوجلان وقواعده ومناطق انطلاق عملياته على الحدود المباشرة معها، فقرّرت أن تستأصل هذا الخطر، وأبدت استعدادها لدفع تكلفة ذلك، فحشدت قواتها في الحدود السورية التركية، وخرج الرئيس التركي حينها، سليمان ديميريل، مع وزير خارجيته، بتهديدات جدّية ومهينة لسورية.
تركيا التي عرفت أين يختبئ عدوّها، عرفت كيف يدير النظام في سورية اللعبة، فقرّرت أن تتكلّم باللهجة التي يفهمها لدفعه إلى الاستجابة. وقد أثمر هذا الأسلوب بالفعل، فلم يمضِ وقت طويل حتى خرج أوجلان من دمشق بلا عودة، وبعد أقل من عام استطاعت تركيا القبض عليه وسوْقه إلى إسطنبول، فشاهده العالم كلّه مكبّلاً، وبقي قابعاً في السجن منذ عام 1999.
تخبّط حزب العمّال قليلاً بعد القبض على قائده، ثمّ وجد له ملاذاً في جبال قنديل العراقية، على مقربة من الحدود التركية الإيرانية، بعد سقوط نظام صدّام حسين، وأصبح ينسّق هجماته من هناك نحو الأراضي التركية، ثمّ كان انحسار سيطرة النظام السوري على كثير من الأراضي بعد الثورة عليه عام 2011، خاصّة شرق الفرات، فرصةً مؤاتيةً للحزب أن يوجد له موطئ قدم في سورية على مقربة من الحدود التركية، بعد عمليات تحالف واندماج مع المكوّنات المحلّية، خاصّة وحدات حماية الشعب، وهي المليشيا المسلّحة الرئيسة في شرقي سورية، التي أعلنت حكمها لمنطقة أطلقت عليها اسم "روج آفا"، كان حزب العمّال عنصراً رئيساً في تشكيلها العسكري بمسمّيات مختلفة، الأمر الذي أتاح له نقل جبهاته إلى الأمام قليلاً، وأحسّت تركيا بخطورة الموقف، فنفّذت (في دفعات) ثلاث عمليات في عفرين والباب وعين العرب، سيطرت فيها على المنطقة بواسطة تجمّعات عسكرية محلّية تدعمها مباشرة.
تمتّع أوجلان بهالة كبيرة في أوساط حزبه، جعلت أنصاره في أوروبا ينظّمون مظاهرات ضخمة بعد اعتقاله، وحاول أشخاص حرق أنفسهم اعتراضاً على اعتقاله، وفكّرت تركيا في أن تستغلّ وجود صاحب هذه المكانة الاعتبارية في سجونها لتتفاوض معه، وتقنعه بحثّ حزبه على إلقاء السلاح، والانخراط كلّياً في المجتمع السياسي التركي، ولكن مَن تحرّك بشكل فعلي هو شريك الرئيس أردوغان، القومي دولت بهتشلي، فدعا إلى إطلاق سراح أوجلان في مقابل إلقاء سلاح الحزب. في اليوم التالي من هذه الدعوة، نفّذ حزب العمّال هجوماً إرهابياً على مجمّع صناعي في أنقرة، أسفر عن مقتل خمسة أشخاص، في إشارة إلى أن دعوة أوجلان لن تردع أطرافاً من الحزب عن عملياتهم، ولكن التفاوض الذي أطلقه بهتشلي لم ينقص زخمه، وتعاون أوجلان الذي بلغ السابعة والسبعين بقوله "أريد أن أرى السلام قبل أن أموت".
لم تقدّم تركيا الكثير، فعرضها يتلخّص بالإفراج عن أوجلان في مقابل دعوته لحزبه بإلقاء السلاح، وعلى الحزب هنا أن يقرّر عمق وجود أوجلان في ضمير أفراده وعقيدتهم العسكرية، ومدى قدرتهم بالفعل على الاندماج في الدولة، وخوض معترك السياسة، بعد أن قضوا حوالي نصف قرن في الجبال. هجوم أنقرة (25 /10/ 2024)، الذي تبنّاه حزب العمال إنذار سيئ تمّ تجاهله، لكنّه يعكس رغبة أطراف من الحزب بالاستمرار في القتال، وفي هذه الحالة عليها أن تقاتل من دون رأس الحزب الأيديولوجي، ما سيحوّلها مجرّد عصابة مسلّحة لا تملك أي عمق معنوي.