تونس في أعين دول شمال المتوسّط

07 فبراير 2025
+ الخط -

تمثل تونس نقطة محورية في ملف الهجرة غير النظامية من وجهة نظر دول شمال المتوسّط، مثل إيطاليا، فرنسا، إسبانيا، والاتحاد الأوروبي، نظراً إلى موقعها الجغرافي بوابة بين أفريقيا وأوروبا، وبالنسبة لدول أخرى مثل بريطانيا التي تتنزل زيارة وزير خارجيتها، أخيراً، رفقة قائد أمن الحدود إلى تونس ولقاءهم بالرئيس قيس سعيّد في السياق نفسه، وفي محاولة لتعويض غياب المملكة المتحدة النسبي في المنطقة بعد "بريكست" (خروجها من الاتحاد الأوروبي)، عبر التركيز على تونس بوابة أفريقية والاهتمام باستقرارها عاملاً حاسماً لمنع تفاقم الهجرة والتهديدات الأمنية.

استحوذت مسائل الهجرة والأمن على الحيز الأهم من الزيارة مع إعلان المملكة المتحدة عن تخصيص حوالي خمسة ملايين جنيه إسترليني من التمويل الإضافي لبرامج تعليم المهاجرين المحتملين، على أمل أن يخفض ذلك من احتمالات خوضهم رحلات هجرة غير نظامية عبر بحر المانش. ويرى الاتحاد الأوروبي تونس شريكاً رئيسيّاً في الحد من تدفق المهاجرين غير النظاميين عبر المتوسط، خاصة بعد زيادة الوافدين من السواحل التونسية منذ 2021، حيث وُقّعت اتفاقيات لتعزيز دور تونس في مراقبة الحدود، مثل الصفقة الموقّعة مع إيطاليا والاتحاد الأوروبي في 2023 التي تضمنت مساعدات مالية بقيمة 1.1 مليار يورو مقابل تعزيز إدارة الهجرة. وتعرضت هذه الشراكة لانتقادات من منظمات حقوقية وبرلمانيين أوروبيين بسبب تقارير عن انتهاكات ضد المهاجرين في تونس، خاصة تجاه أفارقة جنوب الصحراء، مع تحويل تونس إلى "حارس حدود أوروبا"، ما عرّض المهاجرين للعنف والتهميش.

تُعامل تونس بوابةً أمنية من دول الشمال، وتعزّزت هذه النظرة مع تزايد تدفق المهاجرين عبر المتوسط في الأعوام الأخيرة، وفي وجود سلطة سياسية تحكم تونس تعجز عن طرح مقاربة شاملة لملف الهجرة، ذات أبعاد تنموية واجتماعية ثم أمنية، رغم محاولة رئيس الجمهورية تسويق سردية مخالفة تتضمن انتقادات للتدخّل الأوروبي في الشأن السياسي التونسي، ورفض لعب دور الشرطي الحارس للحدود البحرية.

تراجعت مكانة تونس الدولية بعيْد انقلاب سعيد على السلطة في يوليو/ تموز 2021، وضعفت قدرتها على جذب الدعم السياسي والمالي الضروري لمواجهة أزماتها الداخلية

لقد أثبتت الزيارات الغربية الشحيحة منذ انفراد سعيّد بالسلطة أن دعم الاستقرار الأمني في البلاد مردّه مخاوف من تفاقم ظاهرة الهجرة، التي تمثل تحدّياً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لهذه الدول، خاصة مع صعود قوى اليمين وأحزابه إلى السلطة أو تعزيز مكانتهم في المشهد السياسي والانتخابي الأوروبي، في مقابل التغاضي عن انتهاكات نظام سعيّد الحقوقية ضد المهاجرين والشعب التونسي سواء، وانقلابه على المسار الديمقراطي وتقويض المؤسسات وضرب استقلالية القضاء وحرية الإعلام والصحافة، التي تمثل جميعها قيما مدنية أساسية في دول الشمال، مما رسخ انطباعاً بأن الأولوية لمصالحها على حساب القيم الديمقراطية، كما أوقعتها هذه الازدواجية في تناقض قيمي، وتضارب في المواقف والتصريحات، يستغلها النظام التونسي لإطلاق يده وتحويل تونس إلى سجن كبير.

تُدين مؤسسات أوروبية، مثل البرلمان الأوروبي، انتهاكات تونس، لكن الحكومات الأوروبية تتعامل مع سعيد شريكاً، بحثا عن تحقيق مصالح تظل قصيرة المدى (خفض أعداد المهاجرين، تعزيز الأمن) أمام تصاعد التحدّيات الهيكلية في البلاد وتدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة وعودة دولة البوليس، التي تمثل جميعها عوامل محفّزة لظاهرة الهجرة وليس العكس، وقد يؤدّي تجاهل الأسباب الجذرية للأزمة التونسية (الفساد، الاستبداد، غياب العدالة الاجتماعية والقضائية) إلى تفاقم الاحتقان الداخلي، والتهديد بموجات هجرة أكبر على المدى الطويل.

تُدين مؤسسات أوروبية، مثل البرلمان الأوروبي، انتهاكات تونس، لكن الحكومات الأوروبية تتعامل مع سعيد شريكاً، بحثا عن تحقيق مصالح تظل قصيرة المدى

تنظر دول الشمال إلى تونس بعد 2021 نموذجاً ديمقراطياً منكسراً، لكنها تتعامل مع النظام الحالي ببراغماتية بسبب المصالح المشتركة، ويُظهر الموقف الأوروبي انقساماً بين المعسكر الأخلاقي الضاغط من أجل الديمقراطية والمعسكر العملي الذي يولي الأولوية للملفات الأمنية المتمثلة في مكافحة الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة. أما الموقف الأميركي فيراوح مكانه بين القلق من تقييد الحريات، مع الحفاظ على التعاون الأمني والعسكري، وسط تجميد جزئي للمساعدات وتخفيض للدعم المالي أو ربطه بإصلاحات اقتصادية وسياسية.

حافظت الولايات المتحدة على قنوات اتصال مع الحكومات التونسية التابعة للرئيس قيس سعيّد، عبر زيارات رسمية محدودة وخالية من الوعود، محاولة الموازنة بين دعم الديمقراطية وحاجتها لشراكة تونس في مواجهة تمدد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. وتراجعت مكانة تونس الدولية بعيْد انقلاب سعيد على السلطة في يوليو/ تموز 2021، وضعفت قدرتها على جذب الدعم السياسي والمالي الضروري لمواجهة أزماتها الداخلية، ما زاد من عزلتها النسبية في المحيطين، الإقليمي والدولي، ولم يتبق لها سوى الملفّ الأمني الذي تسعى من خلاله إلى الحفاظ على علاقاتها مع جوارها الأوروبي خاصة، وتحقيق بعض الاستقرار للنظام الحالي، وهو ما يدفع سعيّد إلى الاستثمار السياسي في ملف المهاجرين غير النظاميين مثلاً، وربطه بمؤامرات داخلية تسعى إلى إطاحته وإثارة الفوضى وتغيير التركيبة الديمغرافية في المجتمع التونسي.

B77CBD47-937D-477E-B99D-EEE3A5A5EC3C
محمد خليل برعومي

باحث تونسي في علم الاجتماع