ترامب في حضرة أباطرة وادي السيليكون
كان لافتاً حضور أباطرة التكنولوجيا: مؤسس شركة ميتا مارك زوكربيرغ، ومؤسس "أمازون" جيف بيزوس، والمؤسس المشارك لـ"غوغل" سيرغي برين، وأغنى رجل في العالم إيلون ماسك، وآخرين، حفل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب (20/1/2025). شغل هؤلاء مقاعدَ عادةً ما تخصّص لكبار المسؤولين الحكوميين، ما يشير إلى توازنات السلطة الناشئة وهُويَّة الإدارة الأميركية المُقبلة. لا يكتفي أباطرة وادي السيليكون هؤلاء بثورتهم الصناعية الفريدة، بل يمارسون نفوذاً على الخطاب السياسي والحوكمة، فمنذ أواخر القرن العشرين، بدأت شركات مثل ميكروسوفت وآبل، ولاحقاً غوغل وفيسبوك، تهيمن في المجالات التكنولوجية والاقتصادية، وجمع مؤسّسوها ثرواتٍ فاقت الناتج المحلّي الإجمالي لدول صغيرة. تُرجِم هذا النفوذ المالي نفوذاً سياسياً، يسعى منه أباطرة التكنولوجيا إلى تشكيل سياسات تخدم مصالحهم، وأصبح ذلك موضوعاً لأسئلة عن تقاطع التكنولوجيا والثروة والنزاهة الديمقراطية.
مارك زوكربيرغ شخصيةٌ مركزيةٌ في المناقشات بشأن تأثير وسائل التواصل في الرأي العام ونتائجه السياسية، وسلّط دورُ "فيسبوك" في الانتخابات الرئاسية الأميركية (2016)، مع مزاعم حملات التضليل وانتهاكات البيانات، الضوءَ على تأثير المنصّة في العمليات الديمقراطية، فيما أكّد استجواب زوكربيرغ في الكونغرس، بشأن الخصوصية وأمن البيانات والأخبار المزيّفة، قلقاً متزايداً من دور التكنولوجيا في السياسة. بعد أحداث "الكابيتول"، علّق زوكربيرغ حساب ترامب في "فيسبوك"، وقال إن أخطار السماح للرئيس بمواصلة استخدام الخدمة بعد تشجيعه التمرّد العنيف هائلة، ولام ترامب زوكربيرغ في هزيمته بانتخابات 2020، وهدّده بالسجن. اليوم، يُعلن زوكربيرغ تقليص قواعد الاعتدال في المنصّات الخاصّة بـ"ميتا"، وسيكون ترامب ممتناً له لجعله الطريق أسرع إلى "ما بعد الحقيقة"، علامة ترامب التجارية إلى السلطة.
غامر إيلون ماسك بدخول الساحة السياسية مستمدّاً تأثيره جزئياً من مشاريعه الواعدة بإعادة تشكيل صناعات السيارات والطاقة واستكشاف الفضاء... تصريحاته في "إكس" تحرّك الأسواق وتثير مناقشات سياسية، وتشير مناداته بسياسات الطاقة المستدامة وتمويل استكشاف الفضاء إلى تأثيره في صنع السياسات. كان ماسك أكبرَ مانحٍ لحملة ترامب الانتخابية، مستشاراً له وأكثر مؤيّديه نفوذاً، وأظهر قوته السياسية بعرقلة خطط الإنفاق الحكومي التي كانت ستؤدّي إلى الإغلاق. عُيّن أقرب مساعديه، المقاول الرئيس لـ"سبيس إكس" جاريد إيزاكمان، رئيساً لوكالة ناسا. بدا ماسك سنداً لترامب في المواجهة مع أوروبا، فتدخّلَ في السياسة الأوروبية مُمتدحاً اليمين المتطرّف، مشوّهاً خصوم التيّار في السلطة، وسرّ حملته ضدّ "عدم كفاءة الدولة"، أو "التعدّي على حرّية التعبير"، إن هو إلا تقويض أيّ محاولة لتنظيم قطاع التكنولوجيا. بكلّ حال، عَهِد ترامب إلى ماسك لجنةً (غير حكومية) لتقليص إنفاق الدولة، ويتضمّن ذلك (نظرياً) "تفكيك" البيروقراطية الأميركية، وليس الديمقراطية الأوروبية (!).
تضمن مليارات الدولارات التي تتدفّق من وادي السيليكون إلى الحملات السياسية تمثيل مصالح شركات التكنولوجيا في العمليات التشريعية، ويستفيد أباطرة وادي السيليكون من منصّاتهم وتقنياتهم كونها أدواتٍ مهمّةً لتشكيل الرأي العام وتعبئة الناخبين والتأثير في مشاعرهم، ونشر المعلومات (والمعلومات المُضلِّلة)، وخوارزميات المنصّات قادرة على تضخيم أصوات على حساب أخرى، ولعب دور سياسي. السيطرة المركزية لحفنة شركات تكنولوجيا على كمّيات هائلة من البيانات وقنوات الاتصال تهدّد المبادئ الديمقراطية، ويتخنق تركيز السلطةِ المنافسةَ، وتقوّض التدفّقَ الحرَّ للمعلومات، ولا ضمانة لعدم اختلال التوازن بين الابتكار والنزاهة الديمقراطية.
تضمّ الإدار ة الأميركية الجديدة 13 مليارديراً، يزعم ترامب إنهم لن يعاملوا معاملةً خاصّةً، لكن الصحافي البارز ستيفان لاور يعود في "لوموند" (13/1/2025) إلى شعار "تجفيف المستنقع" الذي رفعه ترامب خلال حملته الرئاسية الأولى (2016)، ومسّ مشاعر الطبقة العاملة الأميركية شعاراً يدين النُخَب وجماعات الضغط التي تضمن مصالح القِلّة، وينبّه إلى غياب هذا الشعار مع تنصيب ترامب للمرّة الثانية بحضور أباطرة تكنولوجيا وادي السيليكون. رأى لاور أن ترامب لم يعد يعبأ بأن يقدّم نفسه مُبشّراً بأميركا خاليةً من الفساد، وأن "جعل أعمالنا عظيمةً" شعار (غير مُعلَنٍ) يسير جنباً إلى جنب مع شعار "جعل أميركا عظيمةً مرّةً أخرى".