بيروت... الهشاشة التي تحرس الذاكرة

10 يونيو 2025

(زينة عاصي)

+ الخط -

ليست بيروت، كما قد يُظَن، مدينةً تنتمي إلى خطّ زمني واضح. إنها مكان يتكوّن من التصدّعات، لا من العمارة، وممّا يتسرّب بين الحروب، لا ممّا يُشيَّد بعدها. في زمن ما، تشكّلت هذه المدينة في هامش أنظمة بوليسية عربية أغلقت أبوابها على مواطنيها، فبدت بيروت من الخارج نافذةً مشرعة، رغم أن الداخل كان أكثر هشاشةً ممّا يظهر. هشاشتها لم تكن عيباً في بنيتها، بل هي التي منحتها خصوصيتها. هشاشة المكان، هشاشة النظام، هشاشة الذاكرة، كلّها تراكبت لتنتج شيئاً لا يمكن تثبيته، لكنّه كان دائماً قابلاً للحياة. ما بعد منتصف القرن العشرين، وما بعد نكبة العرب الحقيقية بأنظمتهم التي أنتجتها نكبة فلسطين، حين ضاقت الخرائط بالكتّاب والناشطين والمنفيين، برزت بيروت، لا بصفتها منفىً، بل بوصفها فسحةً مؤقّتةً، تسمح بالقول، وتتحمّل ما لا تتحمّله العواصم الأخرى. لم يكن ذلك بفعل مشروع وطني أو رؤية ثقافية شاملة، ولا كان حتى بفعل المصادفة، بقدر ما كان بفعل الفراغ. وفي فراغ السلطة، نشأت لحظات صدق. في غياب الرقيب، نبضت أصوات عديدة، متباينة، ومتحرّرة.
لم تكن بيروت ملاذاً نهائياً لأحد، لكنّها أتاحت لحظات إقامة نادرة. لم تمنح استقراراً، بل منحت الإمكانية. لم تبنِ مؤسّسات منيعة، لكنّها احتفظت بمساحات صغيرة، حيّة، تتيح اللقاء والتبادل والتجاور. لقاءات قصيرة، مسوّدات متبادلة، منشورات مكتوبة على عجل، صداقات فكرية عبرت الأزمنة رغم الشتات. لم يكن هناك مركز. لم تكن بيروت مركز العالم العربي، بل هامشه الذي يتحرّك ويقترح ويجسّ. من هذا الهامش بالتحديد، ظهرت إمكانات التخييل، وكأنّ كلّ من مرّ بها حمل أثراً وترك ظلالاً من دون أن يرسّخ شيئاً. وها هي الآن، لا تزال مدينة الظلال، لكنها أيضاً مدينة الأثر. ما لا يُرسَّخ يُحفَظ أحياناً في العابر.
بيروت اليوم، تحت القصف الإسرائيلي العبثي المتكرّر، تكشف المدينة وجهاً جديداً من وجوهها القديمة. اللامبالاة أمام الغطرسة الإسرائيلية، إذ لا وجود لهدف لهذا العدوان، ولا مبرّرَ عسكرياً تقليدياً للقصف. ما يحدُث مجرّد فعل استعراض. ومع ذلك، لا تتوقّف الحياة. الأرصفة على قلتها (بيروت مدينة اللاأرصفة) ما زالت تحتشد بالخُطى، المقاهي تفتح أبوابها، والأحاديث تتسلّل من شرفات البيوت. المدينة لا تردّ على العنف بالصمت فقط، بل بالاستمرار. الدور الثقافي لبيروت لم ينهَر، بل تغيّر شكله. لم تعد وحدها، ولم تعد الحاضنة الكُبرى، لكنّها ما زالت تحتفظ بجمر التجربة. ما تخلّق فيها من حساسيات، من لغات، من حوارات لم يُكملها القصف، لم يُمحَ. المدن لا تعيش بما تؤسّسه فحسب، بل بما تختزنه من إمكان. وإذا كانت السرديات الكُبرى قد انهارت، فإن بيروت لم تعد بحاجة إليها. لا تقترح نموذجاً، ولا تطلب تمجيداً. يكفي أنها ما زالت هنا، تسير في الحاضر بأقدام الذاكرة. مَن مرّوا بها لم يعودوا فقط أسماء، بل هم جزء من نسيجها المتعدّد، غير المنتظم، لكنّه نابض.
بيروت ليست "عاصمةً"، ولا "ملاذاً"، هي أثر حيّ لتاريخ من المحاولة. وما زالت، رغم كلّ ما تراكم من خسارات، مكاناً تقترح فيه الحرية شكلاً جديداً، أقلّ صخباً، وأعمق أثراً. مدينة لا تَعد بشيء، لكنّها لا تخذل بالكامل. لا تُبهج، لكنها تُؤنِس. وإذا كانت قد عجزت عن أن تحمي كلَّ من لجأ إليها، فإنها نجحت في أن تمنحهم، ولو للحظة، معنىً آخرَ للانتماء. انتماء مؤقّت، عابر، لكنّه حقيقي بما يكفي لأن يُستعاد حين يختفي كلّ شيء. بيروت، في هشاشتها، تحرس الذاكرة. لا تصنع المعجزات، لكنها تُبقي الباب موارباً. في زمن هذا الشرق البائس الطويل، هذا وحده كافٍ ليجعلها تستحقّ البقاء.