النفق الذي نحتاج بين المغرب وإسبانيا

29 نوفمبر 2024
+ الخط -

حَلم الملك الحسن الثاني ببناء النّفق، وحلمنا أيضاً حينها، بما أننا كنّا نحلم تحت مظلّة السّلطة آنذاك، لكن ما يفصل بين المغرب وإسبانيا يتجاوز كونه ممرّاً بحرياً، عرضه 14 كيلومتراً، يمكن اجتيازه بباخرةٍ تستغرق نصفَ ساعة، وها أنتَ في الضّفة الأخرى، أو برحلة جوّية لا تتوقف شركات الطّيران عن تقديم عروضٍ رخيصةٍ لها بين مُدن البلدين. تتراوح مدة الرّحلة من عشرين دقيقة إلى ساعة ونصف، بين أقرب وأبعد نقطة. بل هي المسافاتُ التي لا يمكن قطعها بأيّ وسيلة نقل.

لأنّ المُشكلة التي تحتاج حلّاً ليست طريقة الوصول إلى الضّفة الأخرى من المتوسّط، بل في الفوارق بين هذه الضّفة وتلك، وكيفية الانتقال من وضعية ضفّةٍ جنوبيةٍ تعاني من تحدّيات التّنمية، رغم الخطابات الرّسمية التي تروّج مغرباً متقدّماً لا يتجاوز بضع مناطق في المدن الكبرى. بينما الفقر مُدقعٌ في أماكن عديدة، بعضها خارج المجال المركزي، وبعضُها تحيط به كأحزمة شديدة البؤس، تنمو خلف مناطق عالية الثّراء.

الحلم الحقيقي إيجاد طريقة لا تنقل المسافر من بلد الخدمات الصّحية العمومية فيه كارثية، إلى أحد أفضل الأنظمة الصّحية في أوروبا. أو من تعليم متهالك، إلى تعليمٍ حديثٍ متماسك. أما البِنيتان التّحتيتان فلا يمكن المقارنة بينهما، مع أن إسبانيا كانت دولة متخلّفة إلى عهد قريب. وعمر الدولة الحديثة فيها لا يتجاوز معدّل عمر مواليد السبعينيات والثمانينيات، أما الأجيال السّابقة فلا تزال تذكر إسبانيا الفقيرة والممزّقة.

بينما كان الإسبان يبنون دولتهم، كان الحسن الثاني يحلم بنفقٍ يربطه بأوروبا، حتى ينضمّ إلى الاتحاد الأوروبي، ويُنظِّم كأس العالم. لنتخيّل كيف كان هذا الطّموح يتناقض مع واقع منظومة سياسية كانت تقوم على تفقير الوعي، والتّسامح مع الفساد الذي كان يلتهم موارد الدولة، فيأخذ وزيرٌ "غير طمّاع" بضعة مليارات من الدراهم، أما الطمّاعُ فلا جُناح عليه، ولا حسيب له، طالما عرف من أين يحلب المال العام، بغزارةٍ أكثر من الآخرين. فيزداد الفقر ولا حلم لدى أحدٍ، كيفما كان، يشمل بناء جسر أو نفق، أو حتى خيط يربطه بين النخبة التي تزداد ثراءً والشعب الذي يغرق أكثر تحت الماء، ماء الفقرِ لا ماء البحر، إلّا إذا قرّر الهجرة عبر قوارب انتحارية.

بدل بناء نفقٍ مع الضّفة الأخرى، كان يجب البحث عن حلول تُقنع اليافعين بالبقاء في الوطن، بدل المحاولات الملّحة لاقتحام أسوار سبتة ومليلية المحتلّتين من إسبانيا. ولربّما يحلم عاقل بأن تسعى البلاد إلى تعديل كفّة التنمية مع المحتل، حلّاً أوّلياً من أجل استعادة المدينتين. لأنّ أول تحدٍّ للمغرب، في طريق استرجاعهما، هو إقناع أهلهما. ليس من باب اللّاوطنية، بل من باب الوطنية الحقيقية. فما الوطن سوى مكان يشعر فيه الإنسان بالأمان، وهل من أمانٍ أهم من الأمان الاقتصادي مفتاح كل شيء آخر؟

تُوفر إسبانيا تعويضات البطالة لمن لم يجد عملاً، وتُقدّم المساعدات المالية والعينية للأسر الفقيرة. في المغرب، ماذا سيفعل هؤلاء؟ إلّا إذا خطّطت السلطة يوماً لمعاملة تفضيلية لأهل المدينتين، كما تفعل في مدن الصّحراء المغربية. حيث تُراضي الدولة خاطر الأهالي، بفوائدَ لا يحصل عليها بقية المغاربة بدلاً من البحث عن حل حقيقي.

العائق الحدودي بين المغرب وأوروبا، ليس أربعة عشر كيلومتراً من الماء، فالبحر ليس عميقاً إلى هذا الحد، لكن العميق حقاً الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والدّيمقراطية. لسنا بعيدين فقط عن تحقيق العدالة الاجتماعية لفئات واسعة من الشّعب، ولكننا بعيدون عن حقّه في حرّية التعبير، وهذا أمر ذُقناه فترة، ثم بَحْ، قمنا يوماً من النّوم ولم يعد هناك.

تعوّدنا على قول هذا، لكن الواقع يقول إنّ عملية طويلة تمّت خلالها محاسبة قليلين لإخراس كثيرين... ومرّ تحت الجسر ماءٌ كثير، قبل أن نكتشف أنّنا استيقظنا يوماً ووجدنا حرية التعبير وقد وُضعت كلّياً خلف القفص، وأنّ المغرب سيُنظّم كأس العالم وسيبني النّفق... هل نعيش في حلم أحدهم؟ أم نعيش في زمنٍ تتحقّق فيه أحلام بعضهم، وليس للاخرين سوى النّوم؟

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج