المقاومة والمسارات الإقليمية الصعبة
في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية، التأمت القمة العربية الإسلامية بدون مشاركة المقاومة. حضر الجميع، وغاب الفاعل الرئيسي، أو غيّب بحجة عدم تمتّعه بالصفة الرسمية، مثل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عبّاس. فسابقاً كان الزعيم ياسر عرفات نجم القمم العربية التي لا تلتئم بدونه، ويُقرأ له ألف حساب، لكونه يمثل الشرعية السياسية وشرعية المقاومة. أما اليوم فاختلف الأمر. كانت الأنظمة تتجنّب الاشتباك المسلح مع منظمّة التحرير حتى لا يتعرض أمنها للخطر، خاصة بعد المواجهة العسكرية التي حصلت مع النظام الأردني، وعرفت بأحداث "أيلول الأسود" التي اندلعت ما بين 16 و27 سبتمبر/أيلول 1970. وكان ذلك أول الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها المنظمّة قبل الوقوع في مطب ثان بتورّطها في الحرب الأهلية اللبنانية. اختلف الوضع، فالمقاومة في واد والسلطة في واد آخر. ورغم أن حركة حماس تجنّبت التدخل في شؤون الأنظمة، ولم تردّ حتى على الحكومات التي لم تُخف انتقادها أسلوبها في النضال، وخاصة ما قامت به يوم 7 أكتوبر (2023)، وما انجر عنها من حربٍ مستمرّة، إلا أنها لم تتمكّن من توفير حزام عربي داعم لها.
وحدها المقاومة تواجه إسرائيل وحلفاءها، إلى جانب حزب الله وبقية التنظيمات المرتبطة بإيران. ورغم أهمية هذا التحالف، إلا أنه من العوامل التي دفعت معظم الأنظمة العربية إلى تبرير خلافها الاستراتيجي مع "حماس"، وجعلت الطرفين يسيران في اتجاهين متعارضين في الأهداف والمصالح والأولويات. حتى النظام السوري وجد نفسه غير قادرٍ على مواصلة التمسّك بسياسته المناهضة لإسرائيل من دون الانخراط الفعلي في العمليات الحربية، فدمشق تعمل اليوم على فكّ الارتباط بطهران وبحزب الله، حتى تتجنّب حصول عملية عسكرية إسرائيلية واسعة، تهدف إلى إسقاط النظام والتخلص من بشّار الأسد. ولهذا السبب، وضعت السلطة قيوداً على تحرّكات الفصائل الفلسطينية الموجودة داخل سورية.
أما مصر فسياستها معلومة لدى المقاومة، ليست مستعدة للانخراط بأيّ شكل في استعداء تل أبيب، مقابل التقاطع مع خطة "حماس" التي يجب ألا ننسى أنها جزءٌ من جماعة الإخوان المسلمين. لكن نظراً إلى أهميتها الاستراتيجية واشتراكها في الحدود مع فلسطين، وتحديدا مع غزّة، اقتضت البراغماتية السياسية أن تكون القاهرة أحد الوسطاء الذين تعتمد عليهم المقاومة إلى جانب الدوحة في أي مفاوضاتٍ غير مباشرة مع إسرائيل. وتبقى "حماس" ملتزمة باحترام الخطوط الحمراء التي تضعها مصر التي كانت غزّة سابقا تعود إليها إدارياً.
وبادرت السعودية التي استأنفت دورها الدبلوماسي السابق، حيث تعدّدت مبادراتها التي تحاول من خلالها العودة إلى موقع القيادة الرمزية للمنطقة، إلى خطوتين هامتين. توقفت في الأولى عن الاندفاع نحو التطبيع بسرعة مع إسرائيل بدفع من الإدارة الأميركية. وتمثلت الثانية في تأكيدها من جديد على اعتماد صيغة حلّ الدولتين. ولا يُعرف إلى أي مدى ستتمكن الرياض من التمسّك بهذه السياسة، خاصة في ظل حرص ترامب الشديد على إجبارها على الالتحاق بركب التطبيع، فالضغوط لتحقيق ذلك ستكون قوية. لهذا السبب، تحتاج المملكة إلى دعم إقليمي، حتى تتمكّن من التصدّي، ولو نسبياً، للجشع الأميركي والخبث الإسرائيلي المدعوم غربياً، فنتنياهو يعمل على إخضاع الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية وتركيز إدارة عسكرية في غزّة، وبالتالي، القضاء نهائيا على فكرة الدولة الفلسطينية، في حين أن ترامب يلوّح بورقة التطبيع العاجل مع السعودية، وهي ورقة مغرية جدّا من أجل كبح الاندفاع الإسرائيلي نحو دفن القضية الفلسطينية إلى الأبد. فالتحالف الحاكم يتحدث عن "الفرصة التاريخية".
في ضوْء هذه المتغيرات الإقليمية المعقدة التي أثّرت على أهم الدول المحيطة بفلسطين، على المقاومة أن تكون حذرة جدّا. ففي كل الاحتمالات، ليس من صالحها أن تعزل نفسها عن محيطها. وعليها أن تختار الطريق الأقل تورّطاً، فالسلاح جزء من النضال وليس كله. لقد خاض الشعب أشرس معركة في تاريخه، وحان الوقت لجني الثمار من خلال المفاوضات السياسية.