السودان... فشلٌ في قارّة فاشلة

04 نوفمبر 2025
+ الخط -

(1)
يقولون في المثل، إذا اختلـفَ اللصَّان ظهـر المسروق. فهل يصدُق المثل على السودان؟ ذلك حال السرقة البنيوية التي وقعت كالصاعقة على السودان، ومن تداعياتها هذا الخراب الماثل الذي طاول السودان، أحد أوائل البلدان التي تخلّصت من ظاهرة الاستعمار الكولونيالي، ثمّ توالى تردّيه في السقوط في حوالق الفشل، مرحلة بعد مرحلة. قد يتعجّب الرائي لتاريخ السودان المستقلّ، لو أدرك كم كانت لذلك البلد أدوار في السنوات الوسيطة للقرن العشرين.
انبرى السُّودان، بحكم نيله استقلاله وتخلصهِ من ربقة الاستعمار عام 1956، في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية منافحاً، يدافع عن حقِّ تقرير المصير لكثير من شعوب البلدان الأفريقية وسط القارّة وجنوب صحرائها. كان للسُّودان صوتٌ جهيرٌ ضمن أصوات أخرى، في المنظمة الدولية أوائل ستينيّات القرن العشرين. كان صوتاً منافحاً في الدفاع عن حقوق تلك الشعوب المستعمرة في نيل حرياتها.

حفظ التاريخ للسودان دفاعه عن الكونغو أيام قتلوا لوممبا، وعن نضال الجزائر بأكثر مما فعلت أيّ دولة أخرى

(2)
حفظ التاريخ للسودان دفاعه عن الكونغو أيام قتلوا زعيمها لوممبا، مثلما دافع عن نضال الجزائر بأكثر ممّا فعلت أيّ دولة عربية أو أفريقية أخرى. لقد تبنَّتْ وزارة المجاهدين في الجزائر سِفراً يوثّق ذلك الدعم، وصدر هذا العام (2025) في الجزائر. وإبّان قيادة السودان الدبلوماسية الأفريقية في المحفل الدولي ما بين أواخر خمسينيّات القرن العشرين وأوائل ستينيّاته، بلغ عدد البلدان التي نالت استقلالها 15 بلداً أفريقيا في 1961، أخذت جميعها عضويةً كاملة في الأمم المتحدة. ليت ذاكرة الاتحاد الأفريقي تستعيد ذلك وهي تعلّق عضوية السودان في أنشطتها. ولها أن تتذكَّر كيفَ كان للسودان سَـهمٌ في تعزيز استقلال بلدان القارّة، وفي إنشاء منظمتها الإقليمية عام 1963. وقتذاك، كان السودان فد ساهم بدبلوماسيته في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية السابقة وفي صياغة ميثاقها، وتحوَّل اسمها في عام 2002 إلى "الاتحاد الأفريقي"، مثلما ساهم بقدرٍ ملموسٍ ومعتبر في دعم حركات التحرّر الأفريقية في البلدان التي لم تنل حريتها واستقلالها، فتحقَّـق لها ذلك في سنوات السبعينيّات من القرن العشرين.
(3)
كيفَ انتهى الحالُ بالسُّودان إلى ما نرى من فشلٍ؟ أكثره بيد نُخبهِ السياسية والعسكرية وصراعات لصوصها، وقليله بأيدٍ خارجية خَفـيَّة ماكرة، فباتَ الآن مُشـرفاً على انقسامات وتشظٍّ، ومنبوذاً من أكثر جيرانه في المنظمة الأفريقية التي كان يوماً من مؤسّسيها. عاقبتْ تلك المنظمةُ الأفريقية السودانَ، وعلّقتْ مشاركته في أنشطتها بسبب تغييراتٍ في نظام الحكم بطرق غير دستورية، إثر انقلاب غابت فيه إرادة الشعب وقع في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 في الخرطوم. ليسَ ذلك فحسب، بل صار السودان منبوذاً في منظمة "إيقاد" (الهيئة الحكومية للتنمية) التي كان صاحب مبادرة إنشائها.
في حرب السودان الدائرة، وقعتْ البلاد في فخ انعدام الشرعية، وظهر المسروق. ثمَّ لكَ أن ترَى حالَ أكثر تلك البلدان الأفريقية، وقد لحق بمعظمها ما حاق بالسُّودان مِن تضعضعٍ وفشلٍ وخمول، إذ لم يكن حال بعضها بأفضل من حال السودان الماثل، فشلاً في الإدارة وغياباً للحريات وإلغاءً لأصوات الشعوب. لكأنَّ ثمَّة عَـدوى فيروسية جاءت من السودان، تمدّدت بعدها انقلابات، وانتشرت كالجائحة في أنحاء الـقارّة. أحصى الاتحاد الأفريقي 22 انقلاباً عسكرياً خلال العقدين الأخيرين، بمعدّل انقلابٍ عسكريٍّ كلّ عام في القارة، مع بقاء بعض زعامات بلدانها (وتعرفونهم)، وقـد تكلَّسوا في كراسيهم سنين عدداً.
(4)
ولكَ أن تعلم أنّ أوّل انقلاب شهدته القارّة الأفريقية جنوب الصَّحراء وقع في السودان في نوفمبر/ تشرين الثاني 1958. لعلّ من الغريب أن يكون البلد الأفريقي الذي ساهم بأكبر دعم دبلوماسي عبر المنظمة الأممية، كما بالدعم المادي والعسكري، لتنال معظم بلدان القارة السمراء استقلالها، هو البلد الذي له قصب السبق في ابتدار الانقـلابات في القارة الأفريقية، الذي تبعته في الفشل أنظمةُ العديد من بلدانها. إنَّهُ لممَّا يدعـو إلى السخرية أن تقتصر جهود الاتحاد الأفريقي على تعليق مشاركة تلك الأنظمة الانقلابية في أنشطته، فلا يجرؤ على اتخاذ إجراءات عقابية جادّة تكون أكثر فعّالية تحدّ من الظاهرة. تتردّد بلدان ذلك الاتحاد في مواجهة ظاهرة الانقلابات العسكرية في القارّة الأفريقية، ولا تجدّ في ايقافها، وكأنَّ الأصل هوَ حرص عضوية ذلك الاتحاد على الإبقاء عليها ظاهرة مَرَضيّة لا محاربتها. رجل من القارة، ومن أغنى المستثمرين في قطاع الاتصالات، قلبه على استقرار القارة وسـلامها، هو مـو إبراهيم، قرّر منح جائزة مليونية سنوية لأنجح زعيم أفريقي رشيد. نجح منهم القليل، ولكن لسنوات لم ينجح أحد. والطريف أيضاً أنَّ الرجل الناصح ينتمي إلى القارة الأفريقية، وأصوله في السودان.
هكذا قدّم السودان خلال أعوام الحرب الماثلة (2023 - 2025)، أسـوأ مثلٍ للدولة الفاشلة، صنعها سُرّاقٌ وتركوا خيراتها للطامعين.
(5)
لا تغيب عن النظر تلك التعقيدات المتصلة بالأوضاع الاقتصادية في العالم، وتناقص المواد الأولية، وتزايد المطامع والتنافس الحادّ لحيازة المعادن ومصادر الطاقة وبقية الموارد التي صار امتلاكها معياراً من أهمَّ معايير القوّة والمنعة السياسية والاقتصادية. لقد شهدت القارة الأفريقية تنافساً زادت حدّته حول المعادن من ذهب ونحاس ويورانيوم في العقود الماضية، وكان أشهرها ما كان محوره مناجم الكونغـو. وقد شهدنا كيف تردّت تلك الدولة مهيضة الجناح من أزمة إلى أزمة، ومن انقلابٍ إلى انقلاب، ومن رئيسٍ فاسد يقودها إلى رئيس أكثر فساداً يليه في الحكم. لو جئنا إلى السودان، فقد رصدتْ الاحصائيات موقعاً متقدّماً له في تصدير الذهب، وقد صار ثالث أعلى مُصدِّر، فأينَ هيَ عائداته؟
لقد وضح ما للذهب من أهمية في تمويل الحرب الدائرة في السُّـودان بين أطرافه، ومن ورائهم أصابع أجنبية طامعة لا تخفى على العين. إنَّ البلدان في أفريقيا وفي آسيا، التي نالت استقلالها منذ سنوات أواسـط القرن العشرين، هي أكثر البلدان ضحيةً لهذا التنافس المفزع. لعلّ أهمية مثل هذه الملفّات هو ما دفع كثيراً من دوائر المال والاقتصاد الدولية في دول مؤثّرة إلى طرح مقترح جديد لوضع ضوابط دولية لاستغلال تلك المعادن، ربّما عبر منظمة عالمية، بديلاً للتنافس غير المنضبط الذي في كثير من الحالات تكون ضحيته شعوب تلك البلدان التي حباها الله بثرواتٍ في باطن الأرض، وخيراتٍ يطمع لامتلاكها من دون وجهِ حقّ، طامعون كِبار.

قد تكون أفريقيا أول قارّة فاشلة في التاريخ إن لم يستيقظ اتحادها من غفوته

(6)
الشعوب المغلوبة على أمرها، والبلدان الأفريقية أكثرها واقعة في حقيقة الأمر بين فكَّين: مطامع الكبار الأقوياء مِن جهة، وفساد الصغار الضّعفاء مِن جهةٍ أخرى. المكر الدولي قد لا يتحمّس لإطفاء حروبٍ داخلية من نوع حرب السُّـودان، فصراع اللصين، مثل ذلك الذي وراء حرب السودان بتعقيداتها الداخلية والخارجية، واختلافهما، يشكّل ذلك الماء العكر الذي يُسهِّل اصطياد الكنوز الخفية منه، ويحقّق للطامعين مكاسبهم. إن كان هذا هو الحال، فمن ترى يريد لبلدان القارّة الأفريقية أن تستقرّ أحوالها فتستنهض شعوبها عبر استغلال مواردها أحسن استغلال، أوتستهدي قياداتها برشيد الحكم لترتفع بلدانها من وهدة الفشل؟
النِّظام العالمي المحوِّل وفق المنظور الماثل، سيميل لسببٍ يمتّ لموجبات الصراع الدَّولي، نحو إفشال القارّة الأفريقية بأكملها عبر انقلاباتها العسكرية، وعبر حروب لصوصها المتصارعين بالوكالة، حول قصعة ينالها غيرهم، فتكون بذلك أول قارّة فاشلة في التاريخ. على الاتحاد الأفريقي أنْ يستيقظ من غفوته إذ للطامعين الشرهين عُـيونٌ مفتوحة.