التصوّرات الطائفيّة تدمّر الدولة السورية

09 مايو 2025
+ الخط -

التصوّرات التي نرى من خلالها حدثاً ما تحكم مواقفنا وتحدّد سلوكنا تجاهه. وللتصوّرات قدرةٌ على مقاومة الواقع وإرغامه على التوافق معها عبر آليات نفسية أكثر منها عقلية، مثل انتقاء الوقائع وزيادة أو إنقاص وزن الحقائق بما يناسب التصوّر... إلخ. على سبيل المثال، التصوّر بأن الكوارث التي أصابت المسلمين السُّنة في سورية منذ انطلاق الثورة في 2011، هي استهداف تمييزي ضدّ السُّنة من نظام سياسي طائفي يقلب الموازين بطريقة تضرب على العصب، فيضع أبناء الأقلّية العلوية في موقع مميّز في الدولة، وتسانده الأقلّيات التي لم تعترض (كما يجب) على السياسة الإجرامية الاستباحية التي مارسها نظام الأسد ضدّ جمهور الثورة السورية، الذي كان في غالبيته من السُّنة، في حين لم يلحق بالأقلّيات القدر نفسه من الأذى الذي لحق بهؤلاء... نقول إن هذا التصوّر يجعل من يحمله من المسلمين السُّنة (نستثني الكرد لأن لهم قضية قومية مستقلّة عن الانتماء الديني فلا يتطوّر لديهم مثل هذا التصور) في موقف شديد العداء للأقلّيات الدينية، وقد يجعله متساهلاً مع (أو ربّما راغباً في) الاقتصاص منهم، وصولاً إلى تقبلّ المجازر بحقّهم، حتى لو كان هذا الشخص ذا ثقافة حديثة، وحتى لو كان ذا ميول ضدّ إسلامية في السياسة.

يسحق التصوّر الطائفي كلّ مقوّمات التصوّر الوطني، ويبقى ضيّقاً على استيعاب دولة عمومية

سيجعلك هذا التصوّر ترى أن هناك ظلماً كبيراً وقع على السُّنة في سورية، فقط لأنهم سنّة، على يد الأقلّيات الامتياز نفسه، وسيبدو هذا الظلم أكثر ثقلاً إذا ذهب التفكير بك إلى محاكمة تقول إن السُّنة ليسوا فقط مسلوبي الحقّ في حكم البلد الذي هم أكثريته السكّانية، بل يتعرّضون، فوق ذلك، إلى صنوف البطش على يد "أقلّيات متحالفة". مع تعثّر الثورة في سورية وارتفاع منسوب بطش نظام الأسد إلى حدودٍ غير مسبوقة، تعزّز حضور النظرة الطائفية في الإعلام، وفي الوسطَين الشعبي والعالِم المضادّ للنظام السابق. والحقّ يحتاج المرء إلى قدر جيّد من العقل النقدي للتغلّب على الغريزة الهُويَّاتية التي تجعله يستسلم لانطباعات سطحية سهلة.
وفوق ذلك، سيبدو الظلم رهيباً أكثر لدى الفئة التي تحمل تصوراً دينياً دنيوياً يرى في المسلمين السادة الأجدر للعالم، فكيف يكونون إذاً محكومين ومظلومين ومبطوشا بهم في بلدهم. ويظهر ثقل هذه المفارقة الحادّة في اللغة الإبادية الصريحة التي بات سماعها مألوفاً ويمرّ من دون تبعات، اللغة التي تنظر إلى الصراع الجاري على أنه استمرار لصراع مذهبي، ولكنّه مفتوح اليوم على إبادة لا محلّ فيه للهداية. شيوع هذا التصوّر الطائفي هو ما يفسّر التأييد الذي تحظى به السلطة الجديدة في دمشق، وضعف الموقف الاحتجاجي منها، مع غلبة النزوع التبريري من جانب غالبية المسلمين السُّنة، بصرف النظر عما تفعله أو لا تفعله هذه السلطة. هناك خشيةٌ واضحةٌ لدى المسلمين السُّنة من سقوط السلطة الجديدة، تشبه خشية العلويين السابقة من سقوط نظام الأسد. وهذه الخشية، يضاف إليها وجود تصوّر خرافي عن قدرات غامضة يمتلكها العلويون وبقايا النظام، كانت في أصل التلبية الواسعة للنداء إلى النفير في السادس من مارس/ آذار الماضي، بطريقة تشبه ردّة الفعل المناعي على فيروس سبق للجسم أن تلقّى لقاحاً ضدّه، ولكن المستهدف في هذه الحالة ليس سوى الجسم نفسه، ذلك أن التصوّر الطائفي السائد لدى أهل السلطة وأنصارهم يحرّض في الجسم السوري مرضاً له الآليات نفسها لما يسمى في اللغة الطبّية "أمراض المناعة الذاتية" التي تنهك المريض، فتقوم وسائل حماية الجسم بمهاجمة خلايا الجسم نفسه.
في كلّ حال، يسحق التصوّر الطائفي كلّ مقوّمات التصوّر الوطني، ويبقى ضيّقاً على استيعاب دولة عمومية. حين سيطر التصوّر الطائفي عند المسيطرين على الدولة السورية من العلويين، برز لديهم الشعور بخصوصية الدولة الذي عبّر عن نفسه في "نحن الدولة" في مواجهة الأخرين، وقد دفعت ممارسة هذا التصوّر من موقع قيادة الدولة إلى تحفيز عصبية طائفية علوية تتماهى مع الدولة وتتمسّك بها حتى اللحظة الأخيرة، رغم كلّ الموت والبؤس الذي أوصلتهم "دولتهم" إليه. وفي المقابل، دفعت طائفية نظام الأسد إلى تحفيز عصبيةٍ سنّيةٍ مضادّة، حين استقرّ في وعي عموم السُّنة أنهم في مرتبة أقلّ في بلدهم، عصبية لم تنفع معها محاولات نظام الأسد اختراق المتن السُّني وجذبه من طريق الغزل الديني في بناء المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن وإنشاء قناة تلفزيونية دينية وقبيسيات وتقريب رموز دينية... إلخ، أو الغزل السياسي في المناصب الإدارية أو الاقتصادي في مجالات التجارة والصناعة، الأمر الذي انتهى إلى تحطيم الدولة عقب صراع مدمّر أخرج من المجتمع السوري أسوأ نوازعه.

سيكون استقرار النظام السياسي في سورية مرهوناً بمدى ابتعاده من النزوع الطائفي غير الوطني، أي بمدى قدرته على تحدّي نفسه

واليوم، حين يسيطر التصوّر الطائفي على المُمسكين بمقاليد الحكم في سورية، ويسيطر لدى السُّنة شعور التماهي بالدولة كما كان حال العلويين من قبل، تتحوّل الدولة دولةً خاصّةً، وتتحوّل الطوائف الأخرى محمياتٍ وخواصرَ رخوةً تكون الدولة ضعيفة بهم، بقدر ضعف تماهيهم بها. كان أنصار الأسد يعلنون إنهم يدافعون عن الدولة السورية، فيما يحمل العلويون منهم بوجه خاص، دافعاً أعمق هو صدّ الإسلاميين بوصفهم العدو المباشر لهم. هكذا كانت تتحوّل الدولة أداةً أو حتى ذريعةً في صراع مذهبي. يتكرّر الحال اليوم مع أنصار السلطة الجديدة، حين يبرّرون الممارسات العنيفة ضدّ الأقليات المذهبية بأنها حرص على بناء الدولة. في الحالتين، يبرّر المناصرون المجازر باسم الدولة. في الحالتَين، يدافعون عمّا يدمّر الدولة باسم الحرص على الدولة، وهو حرص غير حقيقي، ويُضمِر نزعةً طائفيةً ربّما لا يدركها المناصر. من الطريف اليوم أن عناصر الفصائل التي تسيطر في الدولة لا يتكلّفون عناء تجميل دوافعهم الطائفية، ذلك لأنهم الأقوى على هذا الصعيد، على خلاف العلويين من قبل.
يبقى من الصعب أن يستقرّ الحال في سورية على هذه الصورة، لأنه من الصعب أن تلعب العصبية السُّنية، الدور نفسه الذي لعبته العصبية العلوية في النظام السابق، فالسُّنة هم أغلبية المجتمع وبيئة التنوع السياسي فيه. فضلاً عن أن أسباب الخوف الأقلّوي العلوي غير متوفّرة عند الأكثرية السُّنية. صحيح أن مثل هذا الخوف محسوس اليوم لدى غالبية السُّنة، ولكنّه غير قابل للاستمرار ليكون سنداً دائماً للنظام الذي يتشكّل في دمشق. على هذا سيكون استقرار النظام السياسي في سورية مرهوناً بمدى ابتعاده من النزوع الطائفي غير الوطني، أي بمدى قدرته على تحدّي نفسه. هذا وحده ما يشكّل أرضيةً لتماهي الجماعات السورية غير السُّنية، مع الدولة، وأيضاً لرضى الغالبية السُّنية نفسها واستقرار علاقتها بالدولة الجديدة.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.