أن تكون فرعونياً في أيامنا

04 نوفمبر 2025

قناع توت عنخ آمون يضيء في حفل افتتاح المتحف المصري الكبير في القاهرة (1/11/2025 Getty)

+ الخط -

"لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها"... هكذا تكلم العلّامة الجزائري عبد الحميد بن باديس، وهكذا لخّص الشيخ منطق السياسة في عبارة واحدة. المعنى أن كلمة التوحيد التي عاش بن باديس بها ولها لن تعني ما تعنيه إذا كان مصدرها المُستعمِر. ومن ثمّ، الانسياق وراء صحّة العبارة في ذاتها، من دون الالتفات إلى سياقها، خطأ فادح.
في الرياضيات، مثلاً، واحد زائد واحد يساوي اثنين، لكن في السياسة قد تكون النتيجة ثلاثة، أو أربعة، أو عشرة، أو ألفاً، بحسب السياق. ولذلك الكلام عن الهُويَّة الفرعونية بديلاً من الهُويَّة العربية، هنا في مصر، والآن، بعد حرب إبادة غزّة (المستمرّة)، وبعد مطالبات ملايين المصريين بأداء سياسي أقوى من متفرّج، وأشرف من متواطئ، هو كلام في السياسة، لا في الثقافة. فدوائر الانتماء، وأعمدة الشخصية المصرية، موضوعات سبق تناولها في سياقات أكثر تخلّصاً من حمولات التوظيف السياسي، وأقلّ توتراً من أجواء ما بعد الحروب والهزائم النفسية. وكتب فيها كثيرون، منهم جمال حمدان وطارق البشري وميلاد حنّا، وذهبوا جميعاً إلى أن دوائر الهُويَّة تتقاطع ولا تتصارع، وأن نكون فراعنةً لا يعني أنّنا لسنا عرباً، ولسنا مسيحيين ومسلمين، ولسنا أفارقة أو آسيويين. وذلك كلّه في مجموعه وتفاعلاته لا يعني سوى بلد واحد اسمه مصر: هذه شخصيته وتلك مكوّناته. فما الداعي إلى استعادة سجالات الهُويَّة الآن؟
ربّما تساعدنا في الإجابة عن هذا السؤال استعادة أجواء ما قبل توقيع معاهدة كامب ديفيد، حين ظهر سجال الهُويَّة في صفحات الصحف المصرية، واشتعلت معركة بدأها (مع الأسف!) توفيق الحكيم بمقال نشره في "الأهرام" (3/3/1978)، دعا فيه إلى "حياد مصر" في الصراع العربي الإسرائيلي. ثمّ تبعه حسين فوزي ولويس عوض وآخرون بمقالاتٍ تُبشر بالفرعونيّة بديلاً من العروبة، وتعزو مشكلات مصر إلى أنها عربية. وبدلاً من الحديث عن خطورة الاستسلام للعدو والتواطؤ مع عودة الاستعمار إلى المنطقة، ممثلاً في رأس استعماري اسمه إسرائيل يقوم بالأعمال القذرة نيابة عن الغرب (بتعبير المستشار الألماني فريدريش ميرز)، دار السجال حول سؤال: من نحن؟ عرب، ومن ثمّ ملتزمون بالقضايا العربية؟ أم فراعنة، لا علاقة لنا بفلسطين أو غيرها؟
وعلى الرغم من أنّنا فراعنة (لو افترضنا جدلاً إمكان ذلك)، لا يعني أن مصلحتنا مع إسرائيل أو مع الحياد إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، فإن هُويَّتنا الفرعونية المتخيّلة لا تغيّر (بمنطق السياسة والمصالح والأمن القومي) من حقيقة أن إسرائيل عدوٌ مباشرٌ، ومن أن الصراع يخصّنا مثل الفلسطينيين، بل أكثر، فالأرض المحتلّة هي بوابتنا الشرقية، والعمق الشامي مفتاح أمننا القومي منذ المصري القديم. هذه ثوابت الجغرافيا التي لن تغيّرها تقلّبات التاريخ. إلا أن المعركة اشتعلت (آنذاك) حول أفكارٍ ثقافويّة كانت تتحرّك (أراد أصحابها أم لا) في سياقات سياسية داعمة للتطبيع مع العدو.
ودخل إلى الميدان للردّ على "فراعنة كامب ديفيد" رجاء النقاش وأحمد بهاء الدين وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) وآخرون، وهي المعركة التي انتهت بانتصار فكري للفريق العروبي، من دون أن يعني ذلك أيَّ تغيّر في سياسات الدولة المصرية. انتهت المعركة بأننا عربٌ في "الواقع"، ورغم ذلك لن نكون كذلك في "السياسة". والمفارقة أن دعاة الانسلاخ السياسي من واقعنا العروبي هم أنفسهم أصحاب الادّعاء الشهير بـ"الواقعية السياسية". تجمّدت "الخناقة" المفتعلة بين وجهي عملة الهُويَّة، لتعود كلّما دعت الحاجة إليها، وها هي اليوم تعود. تبدو في ظاهرها نقاشاً حول افتتاح متحف، لكنّها في حقيقتها إعادة تدوير لنفايات سجالات حكومية قديمة، دارت في ظروف مشابهة لا تقلّ تأزماً، الفارق في الدرجة لا في النوع.
أن تكون فرعونياً في سياق "كامب ديفيد" كان يعني أن تكون مُطبِّعاً، أمّا بعد "7 أكتوبر" (2025)، فأن تكون فرعونياً يعني أن تكون صهيونياً.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان