أصيلة... ألوان وفوتوغرافيا
أظنّها مدينة أصيلة المغربية (40 كيلومتراً جنوب طنجة) وحدَها من المدن العربية التي يتوفّر للرسّامين من ناسها أن يلوّنوا ويرسموا على جدرانٍ فيها، ويجدّدوا ويتجدّدوا في هذا. والحديثُ هنا عن جدران زقاق المدينة العتيقة هناك، حيث الفضاء كلّه مطوّقٌ بالجلال وظلال البساطة، بالأمومة وأنفاس اليفاعات الأولى. وقد انتظم في الدورة الصيفية لمؤسّسة منتدى أصيلة في مطلع يوليو/ تمّوز الماضي مشغل الصباغة على الجداريات في المدينة العتيقة، وهي ورشةٌ دأبت المؤسّسة على تنظيمها منذ أولى مواسم المنتدى في 1978، وشارك فيها 17 فنّاناً وفنّانة من عدّة دول. وذلك بعد الدورة الربيعية التي خُصّصت في إبريل/ نيسان الماضي للفنون التشكيلية، وانتظمت فيها ورشاتٌ في فن الحفر والليتوغرافيا والصباغة، بمشاركة 22 فنّانة وفنّاناً من غير بلد. والأمر موصولٌ، من قبلُ ومن بعد، بالقيمة العالية للفنون، سيّما التشكيل والتصوير، لدى ساكنة (بتعبير مغربي ذائع) هذه المدينة، وكنّا، نحن أصدقاء أصيلة ومنتداها، في ضيافتهم الأسبوع الماضي، وغبطنا، كما نفعل كل مرّة، هؤلاء الناس على ما تُحرزه الفنون البصرية بين ظهرانيهم، فحقّ القول إن رهان عُمدة المدينة المنتخب عقوداً، الراحل محمّد بن عيسى، على الثقافة واحدةً من وسائل التنمية، كان في موضعه الصحّ. وإلى معارض لثلاثة تشكيليين، بحرينية وسورية ومغربي، كان صنيعاً حسناً من أهل مؤسّسة المنتدى تنظيمهم معرض صور فوتوغرافية لبن عيسى، التقطها (بالأبيض والأسود) في شبابه. والقول هنا إنه استُغرِق كثيراً في الحديث عن الراحل، دبلوماسيّاً ووزيراً ورجل دولة، ومُنصِتاً محبّاً، ومثقّفاً وناهضاً بمدينته أصيلة، وكذلك ذوّاقةً وشغوفاً بالمعرفة والآداب والفنون، إلا أن الاكتراث به فوتوغرافياً ظلّ قليلاً، ربما لأنه زاول هذا الفن في عقودٍ بعيدة، وهو الذي أنجز أفلاماً وثائقيّةً في واحدةٍ من محطّات حياته الغنيّة بتجارب ثقافيةٍ وسياسيةٍ وإعلاميةٍ وإنسانيةٍ متعدّدة الأبعاد.
للصور في المعرض قيمتها في أنها ليست فقط من ذاكرة صاحبها، الغائب الباقي، وإنما أيضاً من ذاكرة أصيلة نفسها. وإذ قيل وانكتب إن هذه المدينة الصغيرة قليلة السكان (أقلّ من 40 ألفاً) بعد ترؤس بن عيسى مجلسها البلدي، وبعد أن نشط في خدمتها، مع رفيقه التشكيلي الراحل، محمّد المليحي، ليست كما قبلها، فإن الصور التي شوهدت في المعرض تُساهم في حماية ذاكرتها، سيما وأنها (الصور)، لم تكترث كثيراً بالمكان، وإنما بالإنسان فيه. ولا يُغفل هنا عن أن ماضي أصيلة ماثلٌ أمام العيون فيها، في المقاهي الشعبية التي يُحافَظ فيها على تقاليد الغناء الشعبي في المساءات، بحضور السمّيعة الذين يمتّعون أنفسهم على كيفٍ ما في سهراتٍ متقشّفة. وماثلٌ في كل فضاءات المدينة ومطاعمها وحدائقها، فلست في مدينةٍ انصرفت إلى العمران الكثير والبنيان الشاهق والأسواق التجارية الكبرى. لا شيء من هذا، إلا قليلٌ طبيعي، فأنت في مدينةٍ على مقادير ظاهرةٍ من البساطة، بل والفقر الكريم (إذا شئت) أيضاً في بعض مظاهر غير خافية.
يُخبرنا محمّد بن عيسى، في كلمةٍ له، تضمّنها الكاتالوغ، الرشيق الخفيف، للمعرض (اسمُه مسام جلد... شذراتٌ من قلب إنسان)، كتبها في 1974، أن صورَه هذه "ليست مجرّد لقطاتٍ عابرة، بل محاولة لجعل المدينة تهمس لسكّانها"، ويضيف "قد تكون هذه المجموعة سيرتي الذاتية، لكنني فضّلتُ أن أرى فيها السيرة الذاتية للمدينة التي ولدتُ فيها، أصيلة". ويكتُب "في كل صورةٍ التقطتُها من واقع المدينة اختبرتُ انتمائي وهوّيتي، فاستعدتُ كياني الذي كادت تجرفه رياح غريبة... رأيتُ الناس، رأيتُ الحجارة، رأيتُ السور، ورأيتُ أيضاً الظلال، والأشكال والأبعاد، ورأيتُني عائداً إلى جوهر ذاتي". و... "رأيتُ الرجال على الطاولات في المقاهي، ومعهم كؤوس الشاي وأعواد السجائر، يلعبون الورق، ويلوّحون بأيديهم، يتقاسمون لحظةً من فرح الزمن".
إذن، صحّ كثيراً، وبدقّة، قول الكاتب المغربي، شرف الدين ماجدولين، في ورقته عن بن عيسى، في ندوة خيمة الإبداع ضمن أعمال منتدى موسم أصيلة الجاري، وكان كاتب هذه السطور من ضيوفه، إن عشق صاحبنا الصورة كان نابعاً من أنها "تلتقط ما لا يُرى بالعين المجرّدة، ولأن للفوتوغرافيا ذكاءً والتماعة خاصّين في تحويل البديهيّ والعاديّ إلى شيءٍ استثنائي، عندما يؤطّر في صورة تصبح خالدةً في الزمن". وهذا مختتمٌ طيّبٌ لمقالة حاوَلت أن توجِز عن فرح أصيلة بالفنون، وعن غبطة محمّد بن عيسى بالفوتوغرافيا، وأظنّها لم تفلح تماماً.