استنزاف مياه الأردن... قرارات حكومية تؤدي إلى تراجع كمي وكيفي

12 يناير 2025
الأردن ضمن قائمة أفقر دول مائياً على مستوى العالم (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعاني الأردن من تدهور مستمر في المياه الجوفية نتيجة قرارات حكومية عشوائية واستنزاف مفرط، حيث وصلت تسعة من أصل 12 حوضاً جوفياً إلى مرحلة الاستنزاف، مما يهدد بتفاقم أزمة المياه.

- يواجه المزارعون في وادي الأردن تحديات بسبب ارتفاع ملوحة المياه الجوفية، مما يضطرهم لتحلية المياه أو خلطها بمصادر أخرى، وتساهم الزراعة المكثفة والأسمدة في تلوث المياه بالنترات.

- تتعرض المياه للتلوث من الأنشطة الزراعية والصناعية، مما يؤثر على جودة المياه للشرب والري، وهناك حاجة لاستراتيجيات حصاد مائي وإدارة مستدامة لتخفيف الضغط على الأحواض الجوفية.

أدّت قرارات حكومية عشوائية في الأردن إلى تدهور مستمرّ منذ عقود في كمية وجودة المخزون الجوفي بالمملكة، التي تأتي ضمن قائمة أفقر البلدان مائياً على مستوى العالم، وبالرغم من ذلك يستمر التراجع في رصيدها حجماً وكيفاً.

- يتكبّد المزارع جمال مصالحة تكاليف كبيرة من أجل ريّ مزرعته الواقعة في وادي الأردن الذي يُعدّ سهلاً خصيباً يمتدّ شرقي النهر وصولاً إلى البحر الميت غرباً، إذ يضطر إلى تحلية المياه الجوفية التي يسحبها عبر بئر ارتوازية من حوض وادي الأردن، وهو أحد الأحواض المائية الجوفية الاثني عشر في المملكة.

يُخفّف مصالحة ملوحة المياه الكبيرة عبر تحليتها، إذ تعلّم درساً مما رآه في مزارع مجاورة، خسر ملّاكها محاصيلهم بسبب الري بالمياه الجوفية مباشرةً، بعد السماح للوحدات الزراعية بحفر الآبار الارتوازية في مناطق وادي الأردن الشمالية والوسطى والجنوبية، للتخفيف من عجز المياه ولضمان توفير مصدر استخدام دائم، إلّا أن استنزاف المياه الجوفية تخطّى الضخ الآمن بمقدار 14.64 مليون متر مكعب (الفرق بين كمية السحب الآمن والضخ الفعلي)، ما أسهم في زيادة ملوحة مياه حوض وادي الأردن، وينسحب الأمر على تسعة أحواض أخرى تتوزّع في أنحاء المملكة، والتي تشكّل المصدر الرئيسي لتزويد السكان بالمياه، بحسب بيانات خريطة الأحواض المائية الجوفية المفصلة في تقرير "قطاع المياه الأردني - حقائق وأرقام" الصادر عن وزارة المياه والري في نهاية عام 2022.

 

الزراعة تُهدّد الأحواض الجوفية

يزيد الطلب الكبير على المياه الجوفية للزراعة في مناطق الأغوار الشمالية والوسطى والجنوبية من تحدّي ازدياد نسبة الملوحة التي تُقاس بحسب مجموع الأملاح الذائبة في مياه الآبار، ففي الأغوار قد تصل إلى 3000 مل غرام/لتر، في حين تتراوح النسبة الطبيعية بين 1500و2000 مل غرام/لتر، وليتغلّب المزارعون على هذا التحدي يخلطون المياه بحصصهم من مياه قناة الغور الشرقية أو من مياه السدود أو الحفر المخصصة لجمع مياه الأمطار، وكذلك مياه الينابيع المجمّعة في برك بلاستيكية قبل ري مزروعاتهم، والبعض يتجه إلى التحلية كما يفعل مصالحة، وفق ما يشرحه لـ"العربي الجديد" أستاذ جيولوجيا المياه والبيئة والاستكشاف الجيوفيزيائي في جامعة الحسين بن طلال (حكومية) محمد الفرجات.

9 أحواض جوفية من أصل 12 حوضاً مستنزفة بسبب الضخ الجائر

تتضح الإفادة السابقة في ضوء نتيجة فحص 17 عينة مياه جوفية من منطقة وادي الأردن، إذ تبيّن أن نسب ملوحتها تجاوزت الحد المسموح، وصنفت المياه وفقاً للمعايير العالمية بأنها ملوّثة بشكل معتدل وغير صالحة للشرب في 50% من العينات التي حُلّلت، بحسب ما جاء ضمن دراسة "هشاشة نظام المياه الجوفية بمنطقة وادي الأردن ومؤشرات التلوّث"، التي أجراها باحثون في دائرة البحث العلمي في الجامعة الأردنية الحكومية عام 2012، والتي تعزو الأمر إلى الضخ الجائر الذي يشهده الحوض لتوفير حاجة المحاصيل، إذ تمارس الزراعة بأنماط مكثفة على مدار العام لتلبية الطلب المتزايد على الغذاء في المملكة.

الصورة
التركيز على استخدام المياه الجوفية في الأردن (العربي الجديد)
يعتمد الأردن على المياه الجوفية بشكل كبير ما تسبب بضخّ جائر (العربي الجديد)

الأخطر أن المناطق الشمالية من وادي الأردن معرّضة للتلوث الشديد بسبب ارتفاع تركيز النترات NO3 (أيون قابل للذوبان في الماء، يسبب دخوله للجسد بكميات كبيرة عدداً من الأمراض) في عينات المياه الجوفية مقارنة بالعينات المأخوذة من المنطقة الشرقية والأجزاء الجنوبية، إذ وصل أعلى تركيز له شمالاً إلى 84 مل غرام/لتر، وتراوحت تراكيزه في المناطق الجنوبية بين 5 و33 مل غرام/لتر، بحسب ما توصلت إليه نتائج التحليل الذي عملت عليه الدراسة، وإفادة الأستاذة المشاركة في مركز المياه والطاقة والبيئة بالجامعة الأردنية (حكومية) الشريفة هند محمد، وهي أحد الباحثين المشاركين في إجراء الدراسة، والتي حذّرت من أن وجود تراكيز كبيرة من النترات يعود إلى كثافة النشاط الزراعي، واستخدام الأسمدة بشكل عشوائي،  ومنها غير المعالجة، مثل مخلّفات الأغنام، وهذه جميعها تنتقل عبر مياه الري الزائدة عن الحاجة إلى الخزانات الجوفية.

 

تجاوز حدود السحب الآمن

يصنّف الأردن ضمن قائمة أفقر دول العالم مائياً، إذ تبلغ حصة الفرد 60 متراً مكعباً في السنة، وهذه الكمية أقل من خط الفقر العالمي لاستهلاك الفرد سنوياً والمحدّد بـ 500 متر مكعب سنوياً، بحسب الناطق باسم وزارة المياه والري عمر سلامة. ويؤمن الأردن احتياجاته المتنوعة من المصادر المائية السطحية والجوفية، لكن التركيز الأكبر على المياه الجوفية التي تغطّي 58% من الاحتياج لجميع الاستعمالات، وعلى رأسها مياه الشرب، وفق تقرير قطاع المياه.

تغطّي المياه الجوفية 58% من احتياجات المملكة، وعلى رأسها مياه الشرب

إلا أن المشكلة تكمن في أن تسعة أحواض جوفية من أصل 12 وصلت إلى مرحلة الاستنزاف، أما الثلاثة المتبقّية؛ وهي حوض الحماد شمال شرقي البلاد، وحوض اليرموك شمالاً، وحوض السرحان جنوباً، فإن الحصول على المياه من خلالها غير مجدٍ اقتصادياً؛ لوجودها على عمق سحيق وإنتاجيتها قليلة، بحسب الأكاديمية هند محمد التي أوضحت أنه كلّما تطلّب استخراج المياه حفراً أعمق، تزداد المشاكل المتعلقة بمدى صلاحيتها للاستهلاك البشري والزراعي، عدا عن التكلفة المالية الكبيرة وهدر طاقة أكبر، وفي السابق كان الحفر يتم على عمق 100 متر، بينما حالياً يتم على عمق 400 متر في بعض الأحواض. حتى إن معدل انخفاض مستوى المياه الجوفية في الأحواض المستنزفة يتزايد وقد يصل إلى 5 و20 متراً سنوياً، في حين أن معدل انخفاضه الطبيعي متران سنوياً، بحسب تقرير قطاع المياه الأردني.

الصورة
استنزاف الأحواض الجوفية في الأردن (العربي الجديد)
تسعة أحواض جوفية من أصل 12 وصلت إلى مرحلة الاستنزاف (العربي الجديد)

وباستثناء حوضي الديسي والجفر، فإن باقي الأحواض المائية متجدّدة، بحسب ما يوضح المتخصّص في الدراسات المائية السطحية والجوفية، والأستاذ في كلية علوم الأرض والبيئة بجامعة آل البيت الحكومية عبد الرحمن ركاد الشبيب. إلّا أن جميعها بات يعاني نتيجة تجاوز حدود السحب الآمن، ما أدى إلى انخفاض مستوياتها بشكل خطير، ويأتي حوض عمّان الزرقاء شمالي البلاد على رأس القائمة من حيث كمية الاستنزاف التي وصلت إلى 74.9 مليون متر مكعب نهاية 2022، نتيجة السحب الجائر الذي بلغ 162.4 مليون متر مكعب، في حين أن مستوى الضخ الآمن المتمثل بكميات التغذية الجوفية السنوي هو 87.5 مليون متر مكعب، أما حوض الديسي والمدورة جنوباً فوصل حجم الضخّ منه إلى 178.97 مليون متر مكعب، لكن الحد الآمن 125 مليون متر مكعب، وبالتالي أصبح الحوض مستنزفاً بكمية تصل إلى 53.97 مليون متر مكعب، بينما حوض الأزرق وسط المملكة جرى ضخ 65.05 مليون متر مكعب منه، بكمية تتجاوز حدّ السحب الآمن المحددة بـ 24 مليون متر مكعب.

وكما يتضح من البيانات السابقة، فإن أهم حوضين للمياه الجوفية؛ وهما الأزرق، وعمّان الزرقاء، يُعانيان من الضخ الجائر، نتيجة كثرة منح رخص حفر الآبار، إذ وصل عدد الآبار المرخصة بين عام 2012 و 2022 إلى 3385 بئرا، عدا عن الآبار المخالفة التي يتم ردمها لدى اكتشافها ووصل عددها في ذات الفترة إلى 1600 بئر وفق تقرير قطاع المياه السابق.

الصورة
آبار مخالفة (العربي الجديد)

كما يتم سحب كميات كبيرة من الحوضين لسد حاجات مدينتي عمّان والزرقاء من الشرب، علاوة على ذلك فإن اتساع فجوة الفوارق بين الكميات التي تدخل وتخرج إلى الأحواض الجوفية في ظل تراجع معدلات الهطول المطري (التغذية الجوفية)، وتزايد المزارع المعتمدة عليها، جميعها عوامل تؤدّي دوراً في تناقص كميات المخزون، وفاقم مخيم الزعتري للاجئين السوريين شمال شرقي الأردن، والواقع فوق حوض عمّان الزرقاء ويحصل منه على احتياجاته منذ تأسيسه عام 2012 عبر 30 بئراً، الانخفاض المطّرد، والذي يؤدي حتماً إلى زيادة نسبة ملوحة المياه، بحسب الشبيب الذي يوضح أنها وصلت في الحوضين السابقين إلى 800 أو 850 ملغ/لتر.

الصورة
موقع مخيم الزعتري (العربي الجديد)
فاقم مخيم الزعتري للاجئين السوريين شمال شرقي الأردن، الانخفاض المطّرد في مخزون حوض عمان الزرقاء

 

ما دور الجهات المسؤولة؟

يقرّ سلامة بأن الأحواض الجوفية في المملكة مستنزفة بشكل عام، إذ يفترض أن يُضخ منها 240 مليون متر مكعب سنوياً في حد أقصى، إلا أنه يُضخ منها فعلياً ما يراوح بين 480 و500 مليون متر مكعب كل عام، مستدركاً بالقول: "إن هذا يستنزف المصادر المائية، ويربكها، ولكن لا يوجد لدينا خيارات، نحن مضطرون إلى ذلك، لأن لدينا نقصاً في المصادر، ولا بد من تلبية احتياجات الشرب وغيرها من الحاجات الأساسية".

ولا يُستهان بدور الآبار المخالفة في مفاقمة الضخ الجائر، "إلا أن فرق الوزارة المختصة تنفذ حملات مستمرة توعوية، ورقابية لضبط الاعتداءات"، يؤكد سلامة.

لكن الشبيب يطالب صنّاع القرار بضرورة وضع استراتيجية تتضمن تنفيذ مشاريع الحصاد المائي لتغذية تلك الأحواض، مبيناً أن حوضي الأزرق وعمان الزرقاء يتميزان بوجود كميات كبيرة من الجريان السطحي خلال فصل الشتاء، ويجب الاستفادة من هذه المياه في مشاريع حصاد مائي، وتوظيفها للريّ وأغراض أخرى. أما الهدف الأساسي من حصاد الماء، فهو إعادة استخدامه في عملية تغذية المياه الجوفية من خلال اختيار مواقع مناسبة لحقن هذه المياه التي تُجمَّع من الأمطار في الأحواض الجوفية؛ لتتوازن عمليات الضخ والتغذية، سواء أكانت عمليات التغذية طبيعية أم اصطناعية.
 

ملوّثات خطيرة

تعتمد المُزارعة نبيلة مقداد على مياه عين التنور لجميع الاستعمالات، منها الشرب وري المحاصيل، إذ تقطع العين مزرعتها الواقعة في بلدة عرجان في محافظة عجلون شمال غربي المملكة، عبر ثلاثة مسارب.

وتعدّ العين من المصادر الرئيسة المغذية للمحافظة، لكن يجرى إيقاف ضخها بشكل متكرّر حين تختلط مياهها بالملوثات، خاصة الناتجة عن عصر الزيتون في الموسم الممتد بين شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، كما تستذكر مقداد وقوع تلوث شديد عام 2012، إذ لاحظ المواطنون تغيراً في لون المياه وتعكرها ووجود طبقة من الزيت على السطح، وعندما اشتكوا إلى الجهات المعنية، توصّلت إلى أن التلوث حصل بسبب تسرب مخلفات الزيتون من الحفر الامتصاصية غير المبطنة بالإسمنت في المعاصر، وبالفعل كُشف عنها وجرت مخالفتها. وبحسب البيانات المنشورة على الصفحة الرسمية لمديرية صحة عجلون على "فيسبوك" فإن تكرار تلوث مصادر المياه في محافظة عجلون من أبرز المشاكل البيئية، وعلى رأسها عين التنور التي قد يُوقف ضخها ثلاث مرات خلال العام الواحد لدى ملاحظة تغيّر في مواصفاتها.

"وترصد مديرية مياه عجلون مياه الينابيع الرئيسية الأربعة، وهي: راسون والتنور والقنطرة والزقيق، باستمرار" وفقاً لمدير المديرية مالك الرشدان، مؤكداً في حديثه لـ"العربي الجديد" أنه "في حالة المطر الشديد وحصول سيول نوقف إرسال مياه النبع إلى المواطنين احترازياً، إلى أن تستقر الأمور، حيث قد تنجرف أتربة الوادي الذي تسيل عبره المياه، وتسبب عكارة، ولا نعيد الضخ حتى تعود لطبيعتها، وذلك بالاستناد إلى موافقة مديرية صحة عجلون، إذ نزودها بعيّنة من المياه لفحصها، وبناءً على النتيجة يُتخذ الإجراء".

سلامة من جهته يبين أن الينابيع تكون موسمية، وحسب الهطولات والمواسم المطرية، وتستخدم  لغايات الزراعة وسقاية الحيوانات، مؤكداً أن أي ينبوع يستخدم للشرب تطبَّق عليه ذات المعايير التي تطبَّق على المياه الجوفية، وتتأكد الجهات المعنية من نوعيتها وصلاحيتها ومعالجتها وفق القواعد قبل ضخها لأي بيت، وإن لم تكن مطابقة للمواصفات، لا تُضَخ بالشبكة.

لكن التلوث المتكرر يؤثر على حياة المواطنين في عجلون، لأن المياه الجوفية فيها عميقة، ويُعتمد فيها على الينابيع الأربعة والعيون بشكل أساسي لتغطية الاحتياجات، بحسب الشبيب الذي يُوضح أن معاصر الزيتون ليست مصدر التلوث الوحيد، فهناك الحفر الامتصاصية التي يحفرها المواطنون، في ظل انعدام أنظمة الصرف الصحي، ويمكن أن تتسبب بتلوث عضوي، وفي الأغلب يحدث هذا التلوث في فصل الشتاء، إن فاضت الحفر الامتصاصية، وبالأخص التقليدية غير المعزولة بالإسمنت، فتتسرب مياه الصرف من خلال الشقوق الموجودة وتصل إلى مياه الينابيع.

وهو ما تؤكده دراسة بعنوان: تقييم قابلية تأثر المياه في منطقة ينابيع التنور وراسون شمال غرب الأردن، والمنشورة عام 2016، والتي توصلت إلى أن مياه النبعين يتكرر تعرضها للتلوث الميكروبيولوجي الناتج عن تسرب مياه الصرف الصحي، أما في ما يتعلّق بمخلّفات معاصر الزيتون فقد توصلت نتائج الدراسة إلى أنها طاولت نبع التنور فقط في ذلك العام.

وما يزيد الطين بلة، كما يقول الشبيب، أن مواطنين يتعمّدون إحداث شقوق في الحفر الامتصاصية الملحقة بمنازلهم (خاصة بتصريف المياه الآسنة) حتى لا تفيض، ومن أجل تقليل كلفة إحضار سيارات مخصصة لإفراغها، متجاهلين تبعات ذلك على المياه التي يشربونها.