استمع إلى الملخص
- تدفق المخدرات عبر المنافذ واستغلال العصابات للأطفال الفقراء يزيد من تفاقم المشكلة، مما يتطلب تحركاً حكومياً عاجلاً للقضاء على مصادر المخدرات.
- يواجه نظام إعادة التأهيل تحديات بسبب غياب مراكز علاج الإدمان، مما يعيق دمج الأطفال المتعاطين، وهناك حاجة لإنشاء مراكز علاجية متخصصة.
قبل ما يزيد عن العام أصدر الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، تعليماته للحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية القصر من تعاطي المؤثرات العقلية، بعد تفشي ظاهرة الإدمان بينهم، لكن أعداد المتعاطين تزايدت.
- تستيقظ الأربعينية الموريتانية نبيلة حميد كل يوم خائفة من وقوع طفلها البالغ 17 عاماً في الجريمة تحت تأثير تعاطيه المخدرات بعد ما ترك المنزل، عقب عام من خروجه من مركز "استقبال وإعادة الدمج الاجتماعي للقصر المتنازعين مع القانون"، التابع لوزارة العدل، والذي قضى عقوبته فيه بعدما ضبطته مفوضية الشرطة متلبساً بتعاطي الحشيش، في يوليو/تموز 2023.
فشل الدعم الذي تلقاه طفل حميد في تغيير سلوكه، والسبب كما تقول، أن التأهيل النفسي والتدريب على مهن حرفية لا يكفي إذا لم يرافقه تقديم العلاج في مراكز متخصصة للتخلص من الإدمان، الذي تفاقم إلى درجة أن الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، أعطى "تعليماته للحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية القصر من تعاطي المؤثرات العقلية"، وشدد في بيان صادر عن اجتماع مجلس الوزراء في يوليو من العام الماضي، على أهمية مواجهة "المشاكل الطبية والاجتماعية والنفسية والسلوكية، والإدمان المؤدي إلى أعمال الانحراف"، فهل نجح الأمر بعد مرور ما يزيد عن العام على صدور التعليمات الرئاسية ؟.
كيف ولماذا تتفاقم الظاهرة؟
إلى جانب طفل حميد، استقبل المركز خلال الفترة من يناير/كانون الثاني 2020 وإلى منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي 1.418 طفلاً، تعاطوا المخدرات وارتكبوا جرائم أخرى كالسرقة والاغتصاب والقتل، بحسب الإحصائية التي حصل عليها "العربي الجديد" من المركز الذي أوقف به 191 طفلاً في عام 2020، وزاد العدد إلى 236 في عام 2021، ثم تفاقمت الأعداد وبلغت 325 طفلاً في عام 2022، بينما زاد العدد بشكل طفيف إلى 331 طفلاً في عام 2023، ومنذ بداية العام وحتى منتصف أكتوبر الماضي، استقبل المركز 335 طفلاً ما يعني أن الظاهرة مستمرة في التمدد مجتمعياً.
1.418 طفلاً تعاطوا المخدرات وتورطوا في ارتكاب جرائم مختلفة
هذا التزايد الملحوظ منذ عام 2020، تعيده سهام حمادي، منسقة الرقم الأخضر للتبليغ عن الجرائم في الجمعية الموريتانية لصحة الأم والطفل (مستقلة)، إلى تخفيف العقوبات على الأطفال المتعاطين للمخدرات في القانون رقم 15 لسنة 2005، إذ نصت المادة الخامسة من القانون رقم 15 على أن "عقوبة الطفل (أقل من 15 سنة)، هي وضعه تحت سلطة أبوية أو وضعه تحت رعاية أي شخص يوثق فيه أو إيداعه في مركز لإعادة التأهيل الاجتماعي لمدة لا تتجاوز نصف المدة التي يحكم بها عليه إذا كان عمره 18 سنة"، لتتكامل في مضمونها مع المادة السابعة من الفصل الثالث الخاص بالإجراءات البديلة المطبقة من طرف قاضي التحقيق الواردة بالمرسوم رقم 69 لسنة 2009 المتضمن تحديد الإجراءات البديلة لحبس القصر المتنازعين مع القانون، إذ نصت على أنه "يجوز لقاضي تحقيق الأحداث من أجل تحقيق المصلحة الفضلى، أن يودع الطفل لدى ذويه أو وليه أو لدى الشخص الطبيعي أو المعنوي الذي كان يتولى حضانته أو لدى شخص أهل للثقة". كما "يجوز لقاضي تحقيق القصر طبقاً لما تقتضيه المصلحة المثلى للطفل أو لما تمليه الظروف، وضع الطفل في مؤسسة تربوية أو تكوينية مختصة أو في مرفق طبي أو تربوي".
لكن بالنظر إلى خطورة تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية على الفرد والمجتمع، كان الأحرى بالمشرع وضع عقوبات أكثر ردعاً للمتعاطين، تقول حميد، إذا أرادت السلطات محاربة الظاهرة فعلياً وحماية الأطفال من المخدرات التي "تنتشر حتى في المدارس" لابد من التحرك سريعا، وهو ما يؤيده الباحث في القانون الجنائي، أحمد ولد ألبو، فلا توجد سياسة جنائية وطنية واضحة للتصدي لجريمة تعاطي المخدرات، علماً أن أغلب الجرائم، كالقتل والسرقة والحرابة والاغتصاب، يرتكبها الجناة تحت تأثير الإدمان.
ويرد الدكتور محمد القروي، مدير مديرية الحماية القضائية للطفل بوزارة العدل الموريتانية، على ما سبق بأن: "القضاة يعتمدون على مبدأ التخفيف في عقوبة الأطفال بحسب طبيعة ظروف الطفل والجريمة"، مضيفاً لـ"العربي الجديد"، أن السلطات العمومية اتخذت تدابير بديلة عن سجن الأطفال المتنازعين مع القانون من خلال تأمين إطار تعليمي وتأهيلي لهم، ويتابع أن وزارة العدل، تحث القضاة المعنيين بالأطفال المتنازعين مع القانون، على اقتراح حلول مبتكرة ومناسبة تصب في المصلحة العليا وتضمن مستقبلهم.
إلا أن حمادي تعد ذلك "تراخياً قضائياً، وضعفاً في أداء مديرية حماية الطفل بوزارة العدل الجهة الوصية والمعنية بالتعامل مع الظاهرة".
تدفق المخدرات يوسع دائرة الإدمان
مع استمرار تدفق المخدرات إلى موريتانيا، يخشى محفوظ سالم، على طفله البالغ من العمر 12 عاماً، من ارتكاب جريمة أخرى تحت تأثير التعاطي بعد إفراج مفوضية الشرطة عنه في نهاية سبتمبر/أيلول 2024، إثر توقيفه بتهمة سرقة هاتف، خاصة أنه فقد السيطرة عليه، كما يقول، لذا في اعتقاده لا بد للدولة أن تقوم بواجبها في القضاء على مصادر المخدرات التي تتدفق إلى البلاد عبر المنافذ البرية والبحرية ومطاردة العصابات التي تروجها في المناطق السكنية والمدارس.
وتمكنت مفوضية الشرطة الموريتانية من ضبط طن و383 كيلوغراماً من الحشيش والقنب الهندي والكوكايين، والقبض على 40 شخصاً، بينهم أربعة أجانب، ينشطون في بيع المخدرات في مناطق مختلفة من البلاد خلال الفترة من يونيو/حزيران 2021 إلى 12 أغسطس/آب 2024، كما جرى إتلاف تسعة أطنان و148 كيلوغراماً من الكوكايين والحشيش خلال الفترة من 12 يوليو 2023 إلى الثامن من أكتوبر الماضي، وفق ما رصده "العربي الجديد" عبر صفحتي مفوضية الشرطة ووزارة العدل على "فيسبوك".
إتلاف تسعة أطنان و148 كيلوغراماً من الكوكايين والحشيش خلال عام
لكن ما يضبط ليس كل ما يدخل إلى البلاد من مواد مخدرة، إذ تبين عمليات توقيف عصابات ترويج وبيع المخدرات التي تمت خلال تلك الفترة، أنها تنشط في مقاطعات مختلفة في مدينة نواكشوط، مثل دار النعيم، والميناء والرياض، وهو ما تؤكده حمادي، مضيفة أن تلك العصابات تستقطب الأطفال الذين يعانون الفقر، لترويج المخدرات والتشجيع على تعاطيها.
وما يدعم من ذلك معاناة ثمانية من كل عشرة أطفال من الفقر، وفق التقرير السنوي للمكتب القُطري (تابع لمنظمة اليونيسف) 2022، موضحاً أن الأطفال الذين يشكلون نصف عدد السكان (البالغ 4.863 ملايين نسمة)، هم الأفقر بين الفئات العمرية في البلاد، وهو ما تستغله العصابات الإجرامية التي تنشط في الأحياء السكنية والمدارس لاستقطاب "قصر"، كما تقول خديجة لحبيب، باحثة اجتماعية في مركز مبدأ للدراسات الاستراتيجية (مستقل) التي توصلت إلى ذلك من خلال دراسة عن الجريمة في موريتانيا، أعدتها لنيل درجة الماجستير، موضحة لـ"العربي الجديد" أن :"الواقع الاقتصادي المتردي بين الفئات الهشة، وغياب الحقوق الأساسية، يدفع الكثير من القصر المنحدرين من الأسر الفقيرة إلى تعاطي المؤثرات العقلية".
غياب المراكز العلاجية
يودَع الأطفال من سن 15 وحتى 18، في القسم المغلق التابع لمركز استقبال وإعادة الدمج الاجتماعي للقصر المتنازعين مع القانون، ويجرى تأهيلهم وتكوينهم في ورشات مهنية مختصة، مثل النجارة والخياطة، مع حصص ترفيهية ورياضية. أما الأطفال (أقل من 15 سنة) فيودَعون في القسم شبه المفتوح، ويحظون ببرامج رعاية تشاركية مع أسرهم تضمن تقوية الروابط العائلية وتمنح الطفل إحساساً بعدم تقييد حريته، حسبما تقول المديرة العامة المساعدة في المركز فاطمة الشيكر لـ"العربي الجديد".
وخلال فترة الإيداع في المركز، يقضي الأطفال الجانحون، نصف عقوبة البالغ، وفق نص المادة الرابعة من الأمر القانوني رقم 15 لسنة 2005 الخاص بالحماية الجنائية للطفل، والتي تنص على أنه "في حالة الجريمة المرتكبة من طرف طفل يتجاوز عمره 15 سنة، جنحة أو مخالفة، فإن العقوبة التي يجوز التصريح بها في حقه لا يمكن أن تتجاوز نصف العقوبة التي يمكن أن يحكم بها لو كان يبلغ 18 عاماً"، والفقه الجنائي الحديث، يعتبر المتعاطين ضحايا بدلاً من تصنيفهم مجرمين، ولذلك خفف القانون رقم 37 لسنة 1993 المتعلق بالمخدرات والمؤثرات العقلية عقوبتهم وجعلها "الحبس لمدة سنتين حَدّاً أقصى"، ما يعني أن "عقوبة تعاطي الأطفال (فوق 15 عاماً) للمخدرات، السجن لمدة سنة". فيما "يخضع الأطفال (أقل من 15عاماً) لإجراءات الحماية"، بحسب الفقرة الأخيرة من المادة الثانية من الأمر القانوني رقم 15، كما يقول المحامي محمد المامي ولد مولاي، والذي يعمل في مكتبه الخاص بنواكشوط.
ومنذ بداية عام 2020 وحتى منتصف أكتوبر 2024، أفرج المركز عن 823 طفلاً أنهوا مدة تأهيلهم، بحسب الشيكر، والتي قالت إن: "الأطفال يخضعون لتأهيل مكثف يشمل الدعم النفسي والاجتماعي من خلال مرشدين اجتماعيين واختصاصيين نفسيين يتابعون مستوى تقدم برامج التأهيل وإعادة الإدماج الاجتماعي، إضافة إلى معلمين يشرفون على الجانب التربوي وتدريسهم موادَّ تتعلق بالتربية الدينية والبدنية واللغات والرياضيات".
لكن لحبيب، تقول إن جهود إدارة الحماية القضائية ومركز استقبال وإعادة الدمج الاجتماعي للقصر المتنازعين مع القانون، غير كافية مقارنة بحجم الظاهرة وتزايدها، فلابد من معالجة المدمنين حتى يتخلصوا من الرغبة في تعاطي المؤثرات العقلية.
إلا أن انعدام مراكز متخصصة في علاج الإدمان، يعيق مكافحة الظاهرة، ومن ثم يجعل تطبيق الإجراءات البديلة التي نص عليها المشرع عملاً مستحيلاً، كما يقول الباحث القانوني ولد ألبو، متابعاً "ليس أمام المحاكم سوى إيداع المدمنين داخل المؤسسات العقابية العادية بدلاً من إخضاعهم للعلاج"، مقترحاً تخصيص جناح في مشفى الأمراض العقلية لعلاج المدمنين، وهو ما تتمناه حميد، قائلة: "على الدولة إنشاء مراكز لعلاج الإدمان، كما يتوجب على القضاء تقديم نمط جديد من الحلول لعلاج أصل المشكلة، وتدارك أطفال موريتانيا وحمايتهم من الإدمان".