ونحن نقترب من العام الثاني للإبادة الجماعية في قطاع غزة، يبدو الحديث عن انحيازات الإعلام الغربي (وبعض المؤسسات العربية)، فعلاً ساذجاً أو فارغاً، بينما يوسّع الاحتلال دمويته ويكثّفها في غزة والضفة الغربية ولبنان. فمنذ اللحظة الأولى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اختارت مؤسسات إعلامية كبرى معسكرها. ومع تحوّل العدوان إلى إبادة جماعية وسقوط أكثر من 40 ألف شهيد، لم تشهد التغطية الغربية تغييرات كبيرة، لا في اللغة المستخدمة، ولا في إعادة الاعتبار إلى إنسانية الفلسطينيين، بعدما عمل الاحتلال جاهداً على نزعها، سواء بتصريحات مسؤوليه أو بتبرير مجازره.
اليوم، بينما يعيش لبنان على وقع المجازر المتتالية في مختلف محافظاته، تعيد مؤسسات صحافية غربية الكرّة، مكررة ببغائياً الرواية الإسرائيلية ومستخدمة نفس التسميات، ونفس التوصيفات، ونفس المفردات، من دون أي مجهود حقيقي لمراجعتها والتدقيق فيها.
لعلّ الفارق الأساسي بين تغطية الإعلام للعدوانين على غزة ولبنان، هو قدرة المراسلين على الدخول إلى الأراضي اللبنانية وتغطية المجازر وتبعاتها عن الأرض، وهو ما لا يحصل في غزة، في ظل إصرار الاحتلال والسلطات المصرية على منع دخول أي صحافي غربي إلى القطاع.
لكن رغم وجودهم على الأرض، فإن المجهود المبذول من قبل الصحافيين الأجانب (وهيئات التحرير التي تراجع هذه التغطيات قبل نشرها) يكاد يكون منعدماً، في فهم التفاصيل اللبنانية، تفاصيل المناطق التي تتعرض للقصف، وسكّانها، وعوضاً عن شرح هذه الفروقات الاجتماعية والسياسية للقارئ الغربي، تغرق هذه التغطيات في عمومية وعشوائية تتوافق حد التماهي مع ما يردده الاحتلال، قبل وبعد كل مجزرة.
الضاحية الجنوبية كما تريدها الرواية الإسرائيلية
تحوّلت الضاحية الجنوبية لبيروت إلى محور للأحداث منذ تفجير آلاف أجهزة البيجر في 17 سبتمبر/ أيلول الماضي، كان يستخدمها عناصر من حزب الله. ما هي الضاحية الجنوبية لبيروت؟ في تعريف ويكيبيديا هي "منطقة لبنانية تتألف من عدّة بلديات وبلدات، وتكمن أهميتها الإستراتيجية في وجود مطار بيروت الدولي ضمن نطاقها ووزارة العمل اللبنانية، والجامعة اللبنانية الذي يعتبر مدخلها السفلي من جهة حي الليلكي. من أهم مناطقها: الشياح، والغبيري، وبرج البراجنة، وحارة حريك، وحي السلم، والليلكي، والأوزاعي، المريجة، وتحويطة الغدير".
في تعريف أغلب اللبنانيين، هي "منطقة لبنانية، ذات أغلبية سكانية شيعية من أبناء الجنوب والبقاع والضاحية نفسها، فيها محافظون وفيها ليبراليون، ومتدينون وملحدون وعلمانيون وطائفيون وفقراء وأغنياء، وعمّال أجانب، وخارجون على القانون وقضاة وأطباء ولاعبو كرة قدم... فيها عشوائيات ومبانٍ حديثة، ومخيمات وكثير كثير من التفاصيل، حول الأمن فيها، وحول مقرات حزب الله، وحول العائلات، وصالونات التجميل ومكاتب السفريات والمطاعم والمقاهي، وزحمة الشارع".
لكن في التغطية الإعلامية تصبح الضاحية "معقلاً لحزب الله". ثلاث كلمات تختصر حياة قرابة مليون شخص، وتفاصيلهم اليومية واختلافاتهم وقناعاتهم. في الاستهداف الإسرائيلي للقيادي في حزب الله فؤاد شكر، وحّدت المؤسسات الإعلامية استخدام العبارة التالية أو ما يشبهها "إسرائيل تقصف الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله". قتل الاحتلال شكر، لكن استشهد أيضاً خمسة مدنيين هم ثلاث نساء وطفل وطفلة. يسقط هؤلاء من الحسابات، ويفقدون فرديتهم وخصوصيتهم تحت مظلة أكبر هي "معقل لحزب الله". وهو ما تكرر، لكن بفداحة أكبر مع اغتيال قيادي آخر للحزب هو إبراهيم عقيل. إذ عمد الاحتلال إلى تدمير مبنى بكامله، تسكنه عائلات وأطفال، فبلغ عدد الشهداء 45 شخصاً.
كثُر إذا استخدام تعبير "معقل حزب الله" في بيروت، ما يوحي أنّ العملية التي نفذتها إسرائيل تتسم بشجاعة استثنائية، أي أن الاحتلال قصف معقلاً عسكرياً وهدفاً محصّناً. بينما في كل العمليات، كان الاستهداف، لمبانٍ سكنية يسقط فيا شهداء. ما تكرّر بصيغته الكبرى في اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله.
إذ كرّرت مؤسسات كبرى مثل "ذا غارديان" البريطانية، ونيويورك تايمز" الأميركية، و"لوموند الفرنسية" و"سي أن أن" وغيرها استخدام التعبير نفسه. يتنقّل "معقل حزب الله" في هذه التغطيات بين الليلكي، وحارة حريك، والقائم، ويردّد الصحافيون بيانات جيش الاحتلال من دون أي مراجعة، مهما ارتفعت أعداد المدنيين الشهداء.
أهداف لحزب الله كما تروّج الرواية الإسرائيلية
تتكرّر البيانات العسكرية الإسرائيلية يومياً حول العدوان على لبنان. بيانات متشابهة عن قصف أهداف لحزب الله (أو حماس وفصائل فلسطينية أخرى)، وتدمير منصات صواريخ، واغتيال قيادات. "أهداف لحزب الله" هي التسمية إذاً. تحت مظلتها مئات الشهداء المدنيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول، تاريخ فتح الجبهة اللبنانية إسناداً للفلسطينيين في قطاع غزة.
استشهاد تسعة أفراد من عائلة واحدة في شبعا الجنوبية، استشهاد 17 فرداً من عائلة واحدة في زبود البقاعية، استشهاد الطفلة ياسمينا نصار في مدينة النبطية... يختفي هؤلاء، يندرجون جميعاً، بأعمارهم وأحلامهم ومشاريعهم ومواقفهم، تحت خانة "أهداف لحزب الله". لا يسائل الإعلام هذه الأهداف، لا يدقّق فيها، لا يرى ضحاياه، أو لا يبذل مجهوداً لرؤيتهم.
لنأخذ على سبيل المثال أشهر الميذيعن البريطانيين، بيرس مورغان، الذي خصص برنامجه Piers Morgan Uncensored منذ السابع من أكتوبر للحديث عن غزة ثمّ لبنان، متبنياً في أغلب الأحيان خطاباً متماهياً مع خطاب الاحتلال. في حلقته قبل أيام التي استضاف فيها الصحافي مهدي حسن، وسأله في معرض الحديث عن تفجير أجهزة البيجر، يصوغ سؤالاً انطلاقا من وجهة نظر إسرائيلية فقط: "استهدف التفجير ثلاثة آلاف إرهابي". وعند تصحيح مهدي حسن التعبير، أعاد صياغة السؤال بالقول "ثلاثة آلاف عنصر من حزب الله" ثمّ أضاف: "أظن أن التفجير أصاب هدفه، أظنّ أنها كانت خطوة رائعة وذكية في إطار الحرب".
أصاب التفجير هدفه. أهداف لحزب الله هي مجدداً. ثلاثة آلاف شخص، يتوزعين في المقاهي والبيوت والسوبرماركت والمتاجر والمستشفيات، آلاف الأجهزة التي يمسكها الأطفال وأفراد عائلات العناصر، كلها لا يراها مورغان، يردد بشكل بليد الرواية الإسرائيلية، بلا أي مجهود لرؤية ما أحاط بالرواية الإسرائيلية، بلا أي مجهود للتدقيق بأسماء الشهداء الذين سقطوا، ولا الطفل الذي قذفه التفجير عن دراجته الهوائية فاستشهد، ولا الطفلة التي أمسكت جهازاً لوالدها فانفجر فيها.
على أي حال، في زحمة الموت بين غزة ولبنان، قد يكون الحديث عن أداء الإعلام مجرّد تفصيل هامشيّ، لا يسرّع ولا يبطئ وتيرة القتل اليومي. فبعد عام من المقتلة في فلسطين، يتّضح أن خبار استخدام المفردات الإسرائيلية، لا هو كسل ولا سذاجة ولا بلادة، بل خيار تحريري واضح، اعمتدته كبرى المؤسسات، التي رفضت الرضوخ لكل الانتقادات التي تلقتها سواء من صحافيين في داخلها أو من قراء وأكاديميين وحقوقيين. خيار تحريري يقوده خيار سياسي لا يرى الشهداء سوى "أهداف لحزب الله" يسقطون في "معقل حزب الله".