حين يعرف المشاهد المجرم، يصبح متواطئاً معه، ويكنّ في أعماقه رغباتٍ ضمنية في ألا تُكتشف الجريمة. هكذا هو الحال بالنسبة إلى توماس ريبلي، الشخصية الأميركية الشهيرة، التي عُرفت من خلال سلسلة روايات خطّتها باتريشيا هايسميث، وكتبتها في خمسة أجزاء بين عامي 1955 و1991.
كان هيتشكوك مسبقاً قد حوّل رواية هايسميث "غريبان في القطار" إلى عمل سينمائي أيقوني يحمل العنوان نفسه. يرجع هذا النمط من التشويق إلى هيتشكوك؛ إذ يصبح المشاهد عنصراً في القصة، فيعرف ما لا تعرفه الشخصيات، وتغدو تفاصيل الجريمة عنصراً في حبس أنفاس المشاهد والشخصية الرئيسية في الوقت نفسه.
أحبت السينما شخصية ريبلي، وتفنن مخرجون كبار في نقلها إلى الشاشة، أولهم هو رينيه كليمنت عام 1960 حين أخرج فيلم Purple Noon، لعب فيه الممثل الفرنسي آلان ديلون دور توماس ريبلي، فيما بعد جاء المخرج الألماني فيم فندرز بمعالجة جديدة لرواية هايسميث في فيلم "الصديق الأميركي" (1977). ولعل الشخصية التي طبعت في ذهن المشاهدين لريبلي كانت من تمثيل مات ديمون في فيلم The Talented Mr. Ripley من إخراج أنطوني ميغلا عام 1999. الفيلم سارعت "نتفليكس" لشراء حقوق عرضه أخيراً، كي يتسنى للمشاهد المقارنة بينه وبين مسلسل "السيد ريبلي"، للمخرج ستيفن زيليان.
مع كثرة الممثلين الذين أدّوا الشخصية في الأفلام، ومنهم جون مالكوفيتش، بدا أن الممثل الأيرلندي أندرو سكوت بأدائه الشخصية في المسلسل أمام امتحانٍ صعب، نجح فيه مجسّداً خصوصية شخصية ريبلي بمهارة وأداء رائع.
زيليان في هذا المسلسل يقتبس أدوات هيتشكوك، بما فيها تحويل كل أدوات جرائم ريبلي وآثار الجرائم إلى طُعم درامي يساهم بالتصعيد. فهذه الآثار من شأنها أن تكشف عن جريمة قتل فيها توم ريبلي شخصين، وانتحل شخصية أحدهما. ولكن دافع القتل عند ريبلي مختلف عن دوافع القتل في شخصيات هيتشكوك؛ فريبلي، على الرغم من كونه قاتلاً، إلا أنه ليس بطلاً عدميّاً، فهو لا يهوى القتل بقدر ما أنه يتخذ منه سبيلاً لحجز مكانه في هذا العالم الجديد، العالم الذي فتنه، فوجد ضالته في الإيمان الجمالي، وبات للعالم من حوله ولوجوده، على حد سواء، معنىً وفق مبدأ نيتشه القائل إن "الفن وحده قادر على أن يسبغ المعنى على العالم".
كانت الروائية الأميركية باتريشيا هايسميث ترى في القتل فعلاً استاطيقياً يصل في لذته إلى لذّة "ممارسة الحب". وهذه المقاربة بين القتل والخلق كتبتها صراحةً في مذكراتها، وفي أدبها، الذي يقدّم غالباً القاتل بطلاً. فهي ترى أن المجرم هو البطل النموذجي للقرن العشرين، والقتل دافعاً نحو بلوغ الجمال، نجده بوضوح لدى بطل روايتها الشهيرة الصادرة عام 1955، The Talented Mr. Ripley.
الموهبة الغامضة التي تشير إليها هايسميث تتنافى مع المنظومة الأخلاقية الاجتماعية، إذ تتجلى في القتل والاحتيال وانتحال الشخصيات. ولربما كانت هذه الموهبة منقوصة ما لم يكن يدعمها دافعٌ غامض، يصل حدّ الشغف. وفي "السيد ريبلي"، أضاف زيليان بعداً جديداً للشغف بالجمال، ولو أن شخصية ريبلي التي أداها مالكوفيتش كانت ذات ذوق رفيع وإحساسٍ عالٍ بالفن، إلا أن ريبلي الجديد أراد ربما أن تتماهى روحه مع عظمة الجمال الذي يحيط به في هذه البلاد الساحرة، إيطاليا.
يبدو مسلسل زيليان كما لو أنه آتٍ من عالم كلاسيكيات النوار الشهيرة، وهذا الجو الذي فرضته الرواية، عزّزه المخرج مع مدير التصوير روبرت إلسويت بخيار الأبيض والأسود، مضيفاً ضبابيةً على المشهد. وباللقطات الواسعة جداً، أتيح للمشاهد التجوال في المدن الإيطالية من أتراني إلى فينيسيا ومن ثم روما، فيشعر أن ريبلي جزءاً لا يتجزأ من الفضاء المحيط فيه. كذلك فإن إيطاليا التي عرفها الجمهور العالمي من خلال سينما الواقعية الجديدة وألِف عماراتها وفنها في الستينيات من خلال أفلام مايكل أنجيلو أنطنيوني وفيدريكو فيليني، تبدو هي ذاتها إيطاليا التي يتجول فيها توماس ريبلي مجرماً وهائماً في الجمال وهارباً من العدالة.
بإمكاننا تأمل شوارع إيطاليا بعين السائح النهم، وبإمكاننا رؤية كيف تترامى تماثيل الأجساد العارية في كل ساحة وكل زقاق. وكذلك نرى لوحات كارافاجيو في الكاتدرائيات، وكيف تتحوّل هذه المنحوتات إلى شخوص في القصة، تراقب المجرم الهارب وتحتفظ بسرّه، ما يكثّف الشعور بمكنونات نفس الشخصية وخوفها وتوترها وترقّبها.
يظهر زيليان التناقض بين إيطاليا وأميركا عندما اختار أن تبدأ القصة في نيويورك في عام 1961 قبل ستة أشهر من أن يقترف ريبلي جريمته الثانية. تماماً كما بدأتها هايسميث، "شاعرة القلق"، كما لقبها الكاتب البريطاني غراهام غرين. في نيويورك، نمضي وقتاً في شقة ريبلي الرثة، ذات الأثاث المتقشّف والمهمل، كما لو أنه قادم من أدب دستويفسكي. تمسح وجه ريبلي نظرة مضطربة، ويعيش في شقة تعكس عالمه الداخلي، تتموضع في مدينة باردة، تفتقد إلى الروح. هذا هو حال ريبلي في نيويورك. ولذلك، حين ينتقل إلى مدن إيطاليا، يشعر بأنه مأخوذ بهذا الجمال المهيب، والعمارة الساحرة والأجساد الصنمية المتلصصة التي تكاد تنطق، وجعلت من إيطاليا بلاداً حية، يجتمع فيها البهاء والوقار.
كما كارافاجيو، كان ريبلي يتيماً فقيراً، يعيش في نيويورك محتالاً ويذهب إلى أتراني بمهمة خاصة يلتقي من خلالها بريتشارد غرينليف الملقب بديكي (جوني فلين)، ومارج (داكوتا فينينغ). يدخل حياتهما الهانئة وبيتهما المطل على البحر، هذا القصر المليء بالتحف الإيطالية وبعض الأثاث البوهيمي الأميركي، ولوحة أصلية لبابلو بيكاسو.
رأى الخدم وحياة الرخاء وشخصاً لا يعمل، بل يُنجز رسومات تجريدية رديئة. لم يستسغ ريبلي رسومات ديكي، كذلك لم يقتنع بموهبته، لكن عالم الرفاه والثراء والاستمتاع بالجمال أغراه، فهو يبدو كمن يراقب من بعيد كيف يحيا الآخرون سعادتهم، ويشتهي أن يكون بينهم، لا بل أن يكونهم، فيتضح أن شخصية ديكي بالنسبة إلى ريبلي هي الشخصية المشتهاة. الأمر لا يقتصر على محاولاته محاكاة طريقة كلامه وعباراته فحسب، بل يصل به إلى قتله وانتحال شخصيته، وعيش حياته.
فهم توم ريبلي كارافاجيو. وما أن تمعّن في لوحاته، حتى شعر بشيء ما حسيّ؛ دماء تتحرك في قلب اللوحة، أو ملحمة تسرد في زوايا الجدارية العظيمة: هناك رجل يرضع من ثدي امرأة، وأم تحتضن رضيعها، ورجل ينهال بالسوط على ظهر عار، وملاك يتصارع مع إنسان، ورجل كهل يحمل شعلة. الشعلة تجسيد لمعادلة الظل والنور التي يمتاز فيها فن كارافاجيو.
لم يكن لكارافاجيو أصدقاء، حاله حال ريبلي. وقد تربّص له أعداء كثر. كانت روحه جامحة، لا تتوانى من معارضة تعاليم الكنيسة الصارمة في الزمان الذي شهد تراجع نفوذ رجال الكنيسة الروحي والثقافي، بالتحديد في ذروة عصر النهضة الأوروبية. وكان كارافاجيو وجهاً فنياً من وجوه تلك المرحلة.
خُيّل لريبلي أنه سمع أصواتاً آتية من إحدى لوحات كارافاجيو، لربما تروي كل شخصية قصة. وربما أنه لم يشعر قط بجمالٍ مثل هذا الجمال، وعندها قرّر أن لا يغادر مهما كلفه الأمر.
قاطع أفكاره صوت ديكي: "رسمها قبل عام من قتله رجلاً في روما". تصبح قصة كارافاجيو بالنسبة إلى ريبلي أكثر بريقاً، وهكذا نرى طيف ابن الفن الباروكي الضال والشقي يرافق ريبلي حتى نهاية المسلسل، حين يزوره شبح كارافاجيو ويخال نفسه جالساً مع الفنان الذي تتقاطع قصته معه في الرحلة والمصير، يحدق كل منها في الآخر، من دون أن ينبسا ببنت شفة، فكلاهما هارب، وكلاهما كشف أمره.
الجريمة تفضي إلى الأخرى، وبطلنا ينجو في كلّ مرة، أو على الأقل يرجئ أجل الكشف عنه ولا يلقي بالاً للعقاب، مع أن طيف ضحاياه يؤرّقه ويحتلّ مناماته أحياناً. إلا أن الحياة في إيطاليا تستحقّ أن تُعاش، وإن كان ثمنها القتل.
ولذلك، سيستمر في الفرار كما فعل كارافاجيو بعد أن قتل رجلاً. سيطوف البلاد مدينةً تلو الأخرى، ويصبح من الوجوه البارزة في عالم الفن الإيطالي الحديث. سيتقمص شخصيات عدة ويدخل قصور إيطاليا من أوسع أبوابها.
هروب توم ريبلي من العقاب ليس على الطراز الأميركي، والمسلسل لا ينتمي إلى جانرا الحركة، بل يضبط زيليان تنقلات بطله وانفعالاته تماماً كما يضبط حركات كاميراته. الحركة في ريبلي مدروسة. كل شيء يحدث بهدوء، فريبلي مجرم متأنٍّ يرتكب جريمته بدم بارد ومنهجية ومن دون أن يساوره التردد. ولو أن المشاهد يمكن أن يعتريه الشك حول تصرفات ريبلي ودوافعه وميوله الجنسية التي بقيت غامضة.
ريبلي هو شبح يطوف مدن إيطاليا. شخصية تغيب طوراً وتظهر أطواراً أخرى. تحيا وتموت. هو شخصيات عدة تعيش في جسد واحد. جسد رجل متمرّس بالخداع، فهو لا يلغي القتيل من الوجود، بل يستولي على هويته وثقافته، على أغراضه وملابسه، على أشيائه الثمينة التي لم يكن في مقدوره قط أن يحصلها بنفسه، على طريقة كلامه، وعلى حياته كاملةً.
لا يزال الباحثون الفنيون ينقبون عن مدلولات تشير إلى الحياة الجنسية لمايكل أنجيلو ميريزي الملقب بكارافاجيو، نسبة إلى مدينة مسقط رأسه، فمنهم من وجد في فنه إشارات واضحة لكونه مثليّاً، أو ثنائي الميول الجنسية. لذلك، ترك زيليان شخصية ريبلي محط تساؤلات حول حياته الجنسية، وميوله الغامضة المكبوحة. إن نظرنا إلى قصة ريبلي من زاوية بوليسية، قد نجده مجرماً يسهل الإيقاع به. ولكن بإمكاننا أن نتمعّن بريبلي من خلال الشخصية وعلاقتها ببقية الشخوص، ورحلة تأمل في مكامن نفس المجرم والجوانب المظلمة في الطبيعة البشرية، فيصبح ريبلي مجرماً كاريزماتياً شبحياً يسعى إلى الانعتاق من الحاجة والبحث عن الذات.