كيف دمّر جيش إسرائيل الأخلاقي الحجر والشجر؟

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 07:18 (توقيت القدس)
دمار في مدينة غزة،31 أكتوبر 2025 (وسام إبراهيم/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- منذ السابع من أكتوبر 2023، دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي مخزون الغذاء في غزة بشكل ممنهج، مما أدى إلى تجويع السكان، وفقًا لتوثيق الأمم المتحدة.
- كانت الزراعة تشكل 11% من الناتج المحلي لغزة وتعتمد عليها 560 ألف شخص، لكن الجيش دمر معظم الأراضي الزراعية والبنية التحتية، مما أدى إلى انهيار منظومة الغذاء.
- استخدمت إسرائيل مبيدات مسرطنة لتدمير الأراضي، مما يهدد مصادر الغذاء المستقبلية، وتطالب جمعية مسلك بتعويضات عن الأضرار.

منذ اللحظات الأولى التي تلت السابع من أكتوبر 2023، ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي جرائم إبادة بحق الزراعة وقطاع إنتاج الغذاء المحلي في غزة، وارتكب فظائع ونفذ أساليب لم يتورط في مثلها الجيش النازي في المحرقة، وذلك بهدف تنفيذ خطة تجويع ممنهجة لسكان القطاع أعلن عنها وزير الدفاع السابق يوآف غالانت. وخلال ثلاثة أيام فقط من بداية العدوان، قضى جيش الاحتلال على 55% من مخزون دقيق الخبز، وثلاثة أرباع مخزون البيض، وثلث المتوفر من الخضروات، وفق توثيق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. 

ومن هنا فإن فضح خطة التجويع التي نفذها بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتشددة وعواقبها على السكان المحاصرين، ضرورة لكشف الوجه الآخر لجيش إسرائيل الصهيوني الذي يصف نفسه بأنه أكثر جيوش العالم أخلاقاً. وحتى يكون الشاهد من أهلها، سنركز على الجرائم التي وثقتها جمعية مسلك الإسرائيلية في تقريرها الذي أصدرته قبل أيام بعنوان، الحرب على إنتاج الغذاء: قطاع الزراعة. ومسلك، هي جمعية حقوقية تدافع عن حقوق الفلسطينيين في قطاع غزة ضد الحصار وإغلاق المعابر منذ سنة 2005. تؤكد مسلك أن إسرائيل دمّرت بصورةٍ منهجية متعمدة، وليست عرضية، قطاعات إنتاج الغذاء في غزة.

زراعة مزدهرة

قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت الزراعة أحد القطاعات الإنتاجية المركزية في غزة، وبلغت مساهمتها نحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع. وكان 560 ألف شخص يعتمد كلياً أو جزئياً على الزراعة لكسب رزقهم، سواء من خلال زراعة الأراضي أو العمل في مجالات صيد الأسماك والثروة الحيوانية البيوت البلاستيكية. تشغل هذه الأنشطة نحو 41% من مساحة القطاع الكلي قبل الحرب. وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت مساحة الأراضي الزراعية المزروعة في غزة نحو 117 ألف دونم، دمّر الجيش تقريباً.

كانت غزة واحة عامرة بالزراعة. في عام 2022، بلغت قيمة الإنتاج الزراعي فيها 575 مليون دولار، منها 54% من الإنتاج النباتي و46% من الإنتاج الحيواني. خلال السنة السبتية اليهودية، الشميتا بالعبرية وفيها يتوقف المزارعون اليهود كل سبع سنوات عن زراعة الأرض لأسباب دينية، سمحت إسرائيل بتصدير بعض المنتجات الزراعية من غزة إلى إسرائيل بقيمة 33 مليون دولار وفقا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وقبل الحرب مباشرة، أعلنت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) أن قيمة صادرات القطاع الزراعي إلى إسرائيل حتى سبتمبر/أيلول 2023 بلغت نحو 40 مليون دولار.

تدمير الحجر والشجر

فرضت إسرائيل على مر السنين ما يُعرف بـ "المنطقة العازلة" بمحاذاة الجدار الفاصل بين غزة وغلاف غزة، ومنعت دخول المزارعين إلى الأراضي الواقعة على مسافة بين 300 متر و1500 متر من السياج، ما يمثل قرابة 10% من مساحة القطاع، وكانت تطبق هذه القيود بإطلاق النار الحي. وبحسب بيانات مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، سجل بين عامي 2020 و 2022 نحو 2100 حادث إطلاق نار من قبل جيش الاحتلال تجاه المزارعين والرعاة قرب السياج أدت إلى مقتل وإصابة المئات. وفقًا لتقديرات صادرة عن منظمة (الفاو)، دمر ذلك الجيش 96% من الأراضي الزراعية، ودمّر البيوت الزراعية البلاستيكية وآبار الري والحقول والبساتين تماماً. ودمر كذلك قطاع الثروة الحيوانية، فأُباد قطعان الأبقار والأغنام والدواجن التي كانت تشكّل مكوّنًا جوهريًا في منظومة إنتاج الغذاء في القطاع. حتى نحل العسل لم يسلم من آلة التدمير الإسرائيلي.

وكشفنا في مقال سابق، كيف دمر الجيش الإسرائيلي الثروة السمكية في القطاع تماما. وبشهادة مسلك، أدّى هذا الدمار واسع النطاق، إلى فشل إنتاج الغذاء تماما، واعتمد السكان بالكامل على المساعدات الإنسانية التي تقوم إسرائيل بمنع دخولها أو تقييدها بشدّة. وبعد أسابيع من المنع الكلّي لدخول الغذاء إلى القطاع، خلص تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إلى أن غزة ترزح تحت وطأة مجاعة جماعية في المرحلة الخامس والأخيرة. ولأن شجرة الزيتون تراث فلسطيني خالص، متوارث عبر الأجيال، جرف جيش الاحتلال اللاأخلاقي 90% من أشجار الزيتون في غزة في الأسابيع الأولى من العدوان. في مدينة غزة وحدها، جرف 55 ألف شجرة زيتون مثمرة وبعضها معمرة، وعمر بعضها أكبر من عمر إسرائيل. 

لأن زيت الزيتون، هو غذاء أهل غزة الأساسي، كان يوجد 40 معصرة في غزة، دمرها الجيش كليا، باستثناء أربع معاصر دمرها جزئيا

ولأن زيت الزيتون، هو غذاء أهل غزة الأساسي، كان يوجد 40 معصرة في غزة، دمرها الجيش كليا، باستثناء أربع معاصر دمرها جزئيا. اليوم، تكلف تنكة الزيتون، 16 لتراً، 2000 شيكل (607 دولارات) في مقابل 200 شيكل (60 دولاراً) قبل العدوان، بسبب إبادة الأشجار وتدمير المعاصر. البنك الدولي قدر في تقريره الصادر في فبراير/شباط 2025 قيمة الخسائر التي لحقت بقطاع الزراعة وحده منذ بداية الحرب بملياري دولار، ويقدرها المكتب الحكومي الفلسطيني بـ2.8 مليار دولار، فيما يحتاج إنعاش القطاع وإعادة إحياء الإنتاج الغذائي المحلي إلى نحو8.4 مليارات دولار.

تلويث التربة الزراعية

حتى مارس/آذار 2024، أدى تدمير البنية التحتية في غزة إلى تسرب أكثر من 60 ألف متر مكعب من مياه الصرف غير المعالجة والملوث بالذخائر إلى الأرض والبحر، ما تسبب بتلوث خطير للتربة. وتعمد الجيش الإسرائيلي تدمير البنية التحتية لمياه الري والصرف الزراعي في غزة. فبحسب تقدير البنك الدولي الصادر في فبراير 2025، تضررت كافة مرافق معالجة مياه الصرف في القطاع، إضافة إلى تدمير 55% من أنظمة الري الزراعي. وأصبحت إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة محدودة للغاية، فيما تلوثت المياه المتاحة.
مكونات القذائف التي ألقتها الطائرات على الأراضي الزراعية رفعت مستوى المعادن السامة وملوحة المياه في التربة، وتسبب النقص الشديد في المياه الصالحة للزراعة في انجراف التربة، وتفاقم الأثر البيئي الناتج عن انبعاث المواد الكيميائية الناجمة عن القصف بالقنابل.

جميع هذه العوامل تجعل من الصعوبة إعادة إنبات وزراعة المحاصيل الزراعية مستقبلا في المنطقة. كما أن التلوث المتراكم قد يؤدي إلى تسمم طويل الأمد للمحاصيل، وبالتالي ينعكس على سلامة مصادر الغذاء المستقبلية في القطاع. نفّذ الجيش الإسرائيلي دون حاجة حقيقية بعمليات تجريف، وتدمير بآليات ثقيلة، وقصف جوي، وإطلاق قذائف مدفعية، وأنشطة عسكرية أخرى. حجم الدمار الذي أحدثه الجيش لا يعني خسارة في البنية التحتية فحسب، بل انهيار كامل لمنظومة الغذاء الزراعية في غزة وشرايين الحياة لسكانها، وفق بيت بيدول نائبة المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. وبسبب أوامر الإخلاء الإسرائيلية والقيود المفروضة على الحركة، كانت الزراعة ممكنة في 1.5% فقط من أراضي غزة.

مبيدات مسرطنة

إسرائيل لجأت أيضاً إلى ممارسات شيطانية لتدمير الأراضي الزراعية، من بينها قيامها، كما كشفت مؤسسة مسلك الإسرائيلية، بعمليات رشّ جوي لمبيدات الأعشاب في الربيع والخريف على المناطق الزراعية العازلة في مواسم الحصاد، بزعم إزالة الأعشاب وتحسين مجال الرؤية للجيش الإسرائيلي. كذلك دمرت الجرافات العسكرية مساحات أخرى من الأراضي الزراعية. وبذلك قوضت إسرائيل قدرة قطاع الزراعة في غزة على تحقيق كامل قدرته الانتاجية. ونتيجة لذلك، اضطر السكان إلى الاعتماد بدرجة كبيرة على المنتجات الزراعية مصدرها من خارج القطاع. فبحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2022، شكل الإنتاج المحلي 44% فقط من إجمالي استهلاك الأسر في غزة من المنتجات الزراعية، وتستورد 56% من إسرائيل.

مبيدات الأعشاب التي تستخدمها إسرائيل تذكر بتلك التي استخدمها الجيش الأميركي في فيتنام خلال الحرب التي استمرت في الستينيات وحتى سنة 1975. رشّت القوات الأميركية حوالي 72 مليون لتر من مبيدات الحشائش لإزالة الغطاء النباتي في 4.5 ملايين فدان من المزارع والغابات وكشف المقاومين. أكثر من نصف هذه الكمية كان عبارة عن "العامل البرتقالي"، وهو مزيج من مبيدات الأعشاب من إنتاج شركة مونسانتو الأميركية مضافًا إليه مادة، الديوكسين. وهي مادة كيميائية سامة ومسرطنة ومدمرة للبيئة. أسفر العامل البرتقالي عن مقتل 400 ألف شخص وإصابة 500 ألف مولود بتشوهات خلقية وأعضاء ناقصة، وما زالت آثاره مستمرة حتى يومنا هذا.

وقبل سنوات، أصدرت هيئة محلفين في ولاية كاليفورنيا الأميركية، قراراً يلزم شركة مونسانتو بدفع تعويضات تصل إلى ملياري دولار لمجموعة من المزارعين على أساس أن مبيد الحشائش الذي كانت تنتجه الشركة تسبب في إصابتهم بالسرطان. وبعد مرور 65 سنة، ما زالت فيتنام تطالب بتعويضات مماثلة. جمعية مسلك الإسرائيلية تحمل إسرائيل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن تبعات أفعالها في قطاع الزراعة في غزة، وتقول إن على إسرائيل أن تعوّض تعويضًا مناسبًا عن الأضرار التي تسبّبت بها سواء لقطاع الزراعة ذاته أو لآلاف السكان في قطاع غزة الذين كانت أرزاقهم تعتمد عليه اعتمادًا مباشرًا. وغير مستبعد أن يطالب سكان ومزارعون من غزة محاكم دولية بإلزام إسرائيل بتعويضات عن خسائر الزراعة وتلويث التربة الزراعية بمبيدات مسرطنة.

المساهمون