استمع إلى الملخص
- تميزت حياته بالترحال والبحث عن الذات، وعاش تجربة روحية وفلسفية خلال الغربة، وعاد إلى تونس ليبني بيتًا ثقافيًا في قريته بالقيروان، معبرًا عن حبه لوطنه.
- حظيت أعماله باعتراف واسع وحصل على جوائز عديدة، وتميزت كتاباته بتصوير حياة الإنسان التونسي، مما جعله من أبرز الأدباء التونسيين المعاصرين.
إن كان للمرء أن يصفه بعبارة واحدة فليس هناك أنسب من كلمة رحّالة للتعبير عن حياة عاشها صاحبها مُصرّاً على التنقل في المكان، وبين البشر، وحتّى القناعات، وبين أشكال التعبير وأجناس الكتابة. حسونة المصباحي، أحد أبرز فرسان الأدب التونسي المعاصر، رحل أخيراً، الأربعاء الماضي، بعد مرض خبيث، قارعه بالعزلة والقراءة والكتابة، متشبّثاً بالجذور التي تركها ذات يوم ليرتحل في العالم، مؤثّراً ومتأثّراً بكل من تقاطعت طريقه معهم، ممّن بحثوا مثله عن معنى وجودهم في المدن وعلى أرصفة الشوارع، وبين رفوف المكتبات ودفات الكتب.
وُلد حسونة المصباحي سنة 1950 في منطقة العلاء بالقيروان، حيث زاول تعليمه إلى المرحلة الثانوية، قبل أن ينتقل إلى العاصمة لدراسة الآداب الفرنسية. انتمى في سنوات الجامعة إلى التيارات اليساريّة التي كانت فاعلة آنذاك في المشهد الطلّابي والسياسي، غير أن تجربة السجن أثّرت فيه كثيراً ودفعته إلى مراجعة الكثير من قناعاته تجاه بورقيبة ونظامه.
بعد تحرّره من دوغمائية الأيديولوجيا كما يُسمّيها، هاجر إلى باريس ثم إلى ألمانيا، حيث استقرّ في ميونخ في الفترة ما بين 1985 و2004، وعمل في الصحافة الثقافية سكرتيراً لتحرير مجلّة "فكر وفنّ" المُوجَّهة للعالم العربي. تسنّت له خلال هذه السنوات لقاءات مع شخصيات أدبية وفنّية في مدن عديدة منها باريس ومدريد واستوكهولم وطنجة وأصيلة وغيرها، أثرت كثيراً في فهمه العالم والكتابة، لقاءات حرص المصباحي على توثيقها إمّا من خلال ما كتب في أدب الرحلة على غرار "الرحلة المغربية" (دار الحكمة، تطوان، 2022)، و"يوميات ميونخ" (الفارابي، بيروت، 2008)، وفي أدب المراسلات "رسائل إلى أصدقاء بعيدين" (1989)، أو من خلال قناع تخييلي في رواياته وقصصه.
من بين هذه الأسماء، كانت له علاقة قويّة بمحمد شكري، وأدونيس، وعبد الوهاب البياتي، وإميل حبيبي، وسليم دولة، ومحمود درويش، وصادق جلال العظم، كما كان سبّاقاً كونه صحافيّاً في تعريف جمهوره على قامات مثل نجيب محفوظ، إذ تمكّن من إقناع التلفزيون البافاري سنة 1988 بإجراء لقاء وفيلم عنه، وكان ذلك قبل حصول محفوظ على جائزة نوبل للأدب.
التيه أسلوباً للحياة
منذ شبابه، كانت الحياة تمدّه برسائل وإشارات خفيّة للدفع به إلى اكتشاف ذاته وما يمكن له أن ينجز في المستقبل، فإثر سجنه في السبعينيات بسبب مقال نعَت فيه بورقيبة بـ"العميل الأكبر"، شاءت الصُّدفة أن تناشد المغنّية الأميركية جون بايز، المدعوّة إلى "مهرجان قرطاج" سنة 1973، الرئيسَ بورقيبة إطلاق سراح مساجين الرأي، وبعد لقاء مع الرئيس شخصياً، وخطبة بنبرة أبويّة منه، تيقّن المصباحي أنه لم يخلق للعمل السياسي، وأن الكتابة أولى به إذا أراد تحقيق تغيير من أي نوع.
تحمّل بعد ذلك سنوات من التتبُّعات الأمنية والحرمان من العمل، وانتظر الانفتاح السياسي الذي تلا أحداث قفصة، ليشد الرحال إلى أوروبا، ويعمل مراسلاً للعديد من الصحف العربية المهاجرة. أما ما عاشه خلال قرابة عقدين من الترحال والغربة، فلا يتكلّم عنه سوى بكونه تجربة روحيّة وفلسفية كان لا بدّ منها ليكتب نصوصاً تليق بالواقع الذي ينشده.
لخّصت كتاباتُه كيف يعيش الإنسان التونسي وكيف يفكر وما حكاياته
ما يميّز تجربة حسونة المصباحي العاشق للمغامرة هو شجاعته في مواجهة مصيره واستعداده الدائم لدفع ضريبة الحرّية التي لم يكن يصبو إلى شيء سواها، بالرغم من معاداة الكثيرين في الوسط الأدبي له، بسبب صراحته ونقده اللاذع للرداءة والتعصّب بأنواعه، يقول في لقائه مع ياسين عدنان: "لا أشعر بأي ندم، بل أحياناً تعتريني سعادة لا أستطيع تفسيرها، فالكثير ممن ضمنوا حياتهم بجرايات تقاعد عاشوا تعساء، أمّا أنا ربّما لأنّي لم أكوّن عائلة، فأواجه خوفي الخاص وحدي، وربّما أدفع ثمن هذه المخاطرة".
كما يرجع "الفرططو" (الفراشة) للنار التي تحرقه
"كيف ما يرجع الفرططو للنار اللي تحرقو" أُغنية يعرفها كلّ تونسي، وتُستدعى باستمرار للإحالة على العودة إلى الأصل، والعشق الذي نشتهي الفناء فيه، فكما كانت غربة حسونة المصباحي استعارة عاش بها عقوداً، أراد أن تكون عودته إلى تونس على القدر نفسه من الشاعرية، حيث كدّ لسنوات في بناء بيت في قرية الذهيبات بالقيروان سمّاه "الزهرة البرّية" وفاء لوالدته زهرة، وجعل منه فضاء ثقافيّاً يضم مكتبة بآلاف الكتب التي رافقته وسافرت معه. يقول في إحدى المقابلات معلّلاً عودته من ألمانيا: "خرجت من تونس وأنا كاره لها بعد أن عشت الجوع والتشرّد والخوف، فلمّا عدت إليها، كنت قد تخلّصت من هذا الثلاثي، فبدأت أكتشف بلادي، حتّى المعمار والشبابيك القديمة، والغناء، والأناشيد البدوية التي أبكي حين أستمع إليها، لأنها تذكّرني بزمن كنت أسمعها وأنا قريب من النساء الريفيّات المشتغلات بالأرض".
عاش حسونة المصباحي وفيّاً لمبادئه ومدافعاً عن حرّيته الخاصة، وكرّس نفسه للكتابة حتى آخر نفس ليصدر لنا روايته الأخيرة "يوم موت سالمة" قبل أسابيع من رحيله، وصفها بأنها جديدة في لغتها ومكثّفة وبرقيّة في أسلوبها، متماهياً مع حكمة هيراقليطس بأن المرء لا يستحمّ في النهر مرّتين، دلالة على التجدّد الدائم في الأفكار وفي طرق الإقامة في العالم والكتابة. وكما وصف الأنهار في "كتاب التيه" بأنها "تروي التاريخ أفضل من القلاع والمعابد والأهرامات والمتاحف، وحتى من كتب المؤرخين، وتحمل في مياهها أسرار كلّ ما مرّت به الشعوب والأُمم من أفراح ومن أتراح. هكذا النيل، ودجلة والفرات، والفولغا، والميسيسيبي، والوادي الكبير..."، فإن حسونة المصباحي كان وسيظلّ أحد أنهار تونس التي لا تجفّ ولا يكفّ ماؤها عن التجدّد.
انتزعت أعمال حسونة المصباحي اعترافاً لافتاً من مؤسسات ثقافية، كما من مبدعين كبار، حيث تحصّل على جائزة وزارة الثقافة التونسية سنة 1986 عن مجموعته القصصيّة "حكاية جنون ابنة عمي هنيّة"، وهي مجموعة ساهمت إلى حدّ كبير في شهرته، حتّى إنّ الأديب المصري يوسف إدريس كتب عنها يقول: "يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التونسي، وكيف يفكر، وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة كما لو أنك عشت في تونس عشرات السنين".
فازت روايته "هلوسات ترشيش" بـ"جائزة توكان" عام 2000 التي تمنحها مدينة ميونخ لكتّاب العام، ونال "جائزة محمد زفزاف" لعام 2016 عن مجمل أعماله، و"جائزة الكومار الذهبي" عام 2020 عن رواية "لا نسبح في النهر مرتين"، و"جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" فرع اليوميات دورة 2023 ـ 2024 عن كتابه "أيّام في إسطنبول". ترجمت العديد من أعماله إلى الفرنسية والألمانية، كما ترجم هو كذلك أعمالاً لإلياس كانيتي ومارتن هايدغر وغيرهما.
* كاتب وصحافي من تونس