استمع إلى الملخص
- تتميز غزة بروحها الفريدة التي تتحدى الواقع المرير، حيث يسعى أهلها للنهوض من معاناتهم، ويواجه الأطفال الجوع والبرد بشجاعة وإصرار، مما يبقي الأمل متقدًا في قلوبهم.
- يعبر الكاتب عن غضبه من تجاهل العالم لمعاناة غزة، منتقدًا القادة السياسيين، مؤكدًا على أهمية الاستمرار في النضال من أجل مستقبل أفضل.
يخبرني أهلي أنّهم يأكلون الخُبز المسوّس، إن وجدوه في غزّة. تمسّني هذه الذكرى والصورة مسّاً شديداً. تعودُ بي الذكريات إلى سنوات الانتفاضة الأولى، أيام كان ينقطعُ الطحين والدقيق عن قطّاع غزّة لبضعة أيامٍ، وكنّا نسمعُ عن أناسٍ يتضوّرون جوعاً وينتظرونَ فرجاً ما.
كانت هذه الأخبار غريبة، فأبي بائعُ طحينٍ وأعلاف وغيرها من المواد الغذائية للبشر والحيوانات سواسية. دبَّ الجوعُ في بعض الناس قليلاً، نعم. ولكن لم أتذكرْ أنّ السُّبل قد انقطعت بنا لدرجة المجاعة، فذلك شيء آخر. بقيتْ غزّة وأهلها وازدهرت حينَ ازدهرت بيوتها.
أتذكرُ خالي فوزي وهو يقولُ إنَّ غزّة قد "جنّنتْ العالم" في جوعها وعبثها وفي بسالتها وموتها. تلكَ مدينةٌ في انتظارٍ دائم. أتذكّرها الآن وكأنّ أهلها والسماء والأرض، وكلّ ما فيها يريدون خلاصاً يليقُ بكفاحاتهم وصبرهم، وكأنّهُ خلاص ليس من طين الأرض.
تنهض من جثّتها المتهالكة لتصبحَ أسطورة تتخطّى الأساطير
الفضاءُ مفعمٌ بالأماني في غزّة بطريقةٍ لم أرها في مكانٍ آخر قط. الأماكن الأُخرى مستقرّة أو استقرت على ما ألمَّ بها، إلّا غزّة، فهي تريدُ أن تنهضَ من جثّتها المتهالكة لتصبحَ أسطورة تتخطّى الأساطير والعصور كلّها. معجزاتٌ في التفكير، تليها أحداثٌ بصيغة الفناء، ومع ذلك يتصاعدُ الأمل ولا تنطفئُ جذوتهُ، وكأننا ننتظرُ من غزّة أن "تحيي العظام وهي رميم". فلا الواقعُ يكفي، ولا الأوهام تستسلم. وكأنه عندما يصغرُ الواقع، تتعاظم الأوهام، فيصبحُ الجوع جنّة والعطش نهر النيل!
ويكون كذلك. تجوعُ غزّة، وتعطشُ، وتتسعُ أعينُ أطفالها، وهم حفاةٌ عراةٌ في الشوارع، يصارعون البرد وهشاشة الجسد ورعب الصواريخ وأصوات الجحيم. تدبُّ الشكيمة في أجسادهم. فها قد تساوى الموتُ والحياة، وأصبح كلّ ما يحيطُ بهم وحتى دواخلهم هباءً يشبهُ الهواء المَنفي من الجاذبية. خواؤهم في عيونهم وهم يبحثون أو لا يبحثون، يستسلمون أو لا يستسلمون، يغضبون أو لا يغضبون.
جوعهم وعطشهم وبردهم يلاحقُني في منامي، وأكادُ لا أسمعُ من الدنيا إلا أصوات الخواء في بطونهم. ألعنُ كلّ شيء وتراودني فكرة "يا ليتني كنتُ نسياً منسيا".
غزّة أرضٌ بصورة البركة، وآخرُ دبابة احترقت، وصورة الحياة والأخلاق، أشكال الأطفال وهم يحاكمون العالَم بجوعهم وعطشهم، ورقصهم بعظامٍ تهوى الصعود إلى أعالي المجد تعباً وأملاً.
تلكَ محرقةُ أهلي وأحبابي وأعزُّ الناس، وأطهر أرض، واسمحوا لي أن ألعنَ العالم، ألعنهُ وأتمنى له أسوأ المآلات، فليأتِ ترامب ومن عيَّنهم وزراءً من عصور الظلام الغابرة، لينطقوا باسم المسيح والقديسين والأهواء. ولتصبح زوجة أحد المصارعين الأميركان في أقذر رياضة في العالم وأعنفها وأشدها قبحاً والتي تستهوي هيئة ترامب بجسدهِ القادم من جبالِ الآلهة الغابرة، وزيرةً للتعليم.
إن من يعشْ في كنف بيئة لم تعد لديها للقيّم والأخلاق ولمبادئ الروح الأولى أيّ معنى أو قوام، سيرى البشر كما لو أنهم بلا تاريخ، لغتهم حرامٌ عليهم، وأفكارهم غيومٌ سوداء في ليالٍ حالكة يلتهمها الدودُ والغمّ.
المستقبلُ - من بايدن الحقير إلى ترامب الأحقر - لا يبشّرُ إلا بمزيدٍ من الأهوال والتعاسات، وتباً للبشريّة التي حلّت مآلاتها بأيدي هؤلاء الأشرار.
أما أهلنا، أصحاب المِعَد الخاوية والبيوت المُهدّمة والذكريات المبتورة، فسنبقى ندقُّ الخزائن المتبقّية في هذه الأرض المُلتهبة، علَّ هناك ما يتصحّح أمام هول الخطوب وفجاعة الزمن الصهيوني المُرّ.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن