جداريات أمّ درمان.. عودة الحياة لا تجميلها

16 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 06:06 (توقيت القدس)
شبّان سودانيون ينفذون إحدى الجداريات في العاصمة الخرطوم، 2020 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بدأت أم درمان في استعادة الحياة تدريجياً بعد توقف القتال، حيث يسعى الفنانون لإحياء المدينة عبر الجداريات، مما شجع مجموعات أخرى على إحياء النشاط الثقافي.
- يمتد تاريخ الجداريات في السودان إلى العصور القديمة، وتطورت لتصبح جزءاً من الحياة اليومية، واستخدمت كأداة للمقاومة خلال ثورة ديسمبر 2018.
- بعد الحرب الأخيرة، أصبح فن الجداريات وسيلة للتعبير عن الصمود واستعادة الإرث الثقافي في ظل تحديات اقتصادية وصحية.

بدأت الحياة تعود تدريجياً إلى شوارع أُمّ درمان، المدينة السودانية التي سكتت فيها أصوات المدافع منذ ستة أشهر، وهي إحدى المدن الثلاث للعاصمة الخرطوم. هناك يتوجّه الفنان التشكيلي السوداني سهل الطئيب إلى مواقع استعادت عافيتها ليشرع في تنفيذ جدارية جديدة، في محاولة لإضفاء روح على "بقعة المهدي" كما تُعرف المدينة. ويستحضر المشهد الراهن ما عاشته أم درمان قبل قرنين حين قصفتها "مدافع المكسيم" التي جرّها اللورد كتشنر قائد حملة الغزو البريطاني عبر صحراء أبو حمد.

على الجدران التي بدأ سهل الطيب ورفاقه تلوينها ومعالجتها، تتشكل مساحات جديدة لإعادة ترميم جماليات أم درمان. هذه المبادرة حفّزت مجموعات فنية أخرى، خصوصاً المسرحيين، على مواصلة جهودهم في إحياء "مسرح المدارس" وترميم المسرح القومي، المتوقع أن يستقبل عروضاً في شتاء 2026. هنا تتلاقى المبادرات الشعبية قبل أي تدخل حكومي.

في إبريل/نيسان الماضي بدأ تلوين شارع النيل في أُمّ درمان بمشاركة فاعلين ثقافيين زيّنوا الشارع بالتوازي مع عودة النشاط الثقافي والفكري. ومن أبرز المؤشرات على ذلك عودةُ دار المصورات للنشر والتوزيع إلى مقرها في وسط الخرطوم، وإعادة افتتاح الدار السودانية للكتب.

أرشيف بصري للثورة يوثّق لحظاتها ويُجسّد رموزها

ليس فن الجداريات في الخرطوم ظاهرة حديثة، بل يمتد تاريخه إلى أزمنة قديمة، لكنه شهد تحولات كبيرة في شكله ومضمونه ليُصبح مرآة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد. يعود أقدم فن جداري في السودان إلى العصور القديمة في شمال البلاد، ووثّقت البعثات الأثرية في مناطق مثل الكرو ودنقلا العجوز اكتشافات لجداريات داخل المعابد والمقابر، تحمل نقوشاً ورسومات هيروغليفية ومَرَويّة تعكس الحضارة النوبية، بالإضافة إلى رسومات مسيحية في الممالك النوبية القديمة، والتي تُظهر مشاهد دينية للمسيح والملاك ميخائيل، نفّذت ببراعة فنية عالية وألوان ما زالت محتفظة بجمالها حتى اليوم.

السودان - القسم الثقافي

في العصر الحديث، تطوّر فن الجداريات ليُصبح أكثر ارتباطًا بالحياة اليومية. برز فنانون فطريون، لم يتلقوا تعليماً أكاديمياً، مثل جحا (موسى قاسم السيد كزام) الذي اشتهر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي برسم لوحات إعلانية ضخمة على جدران المقاهي والمحال التجارية في الخرطوم، مما ساهم في نشر هذا الفن وإخراجه من الأروقة الأكاديمية إلى الشارع العام.

شهدت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 نقلة نوعية في دور الجداريات، إذ تحوّلت من مجرد فنون شعبية إلى أداة أساسية للمقاومة والتعبير السياسي، وتزيّنت جدران ساحة الاعتصام بالقيادة العامة في العاصمة السودانية بلوحات فنية ضخمة تُخلّد شهداء الثورة، وتُعبّر عن أحلام الحرية والعدالة. هذه الجداريات كانت بمثابة أرشيف بصري للثورة، يوثّق لحظاتها الحاسمة، ويُجسّد رموزها مثل المرأة الثائرة وشعار: "تسقط بس"، وأصبح فنانون شباب مثل مآب تاج الدين، وأحمد الصادق "ميدو"، وجوهاً معروفة.
 

السودان 2 - القسم الثقافي

بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، أخذ فنّ الجداريات دوراً جديداً بوصفه إحدى أدوات التعبير عن صمود الشعب في مواجهة الدمار. ففي أحياء أمّ درمان، التي شهدت معارك عنيفة، بدأت تظهر أعمال جديدة على الجدران المتصدعة، لا تهدف فقط إلى تجميل الأماكن، بل تُعبّر عن الرغبة في إعادة الحياة، وتُرسخ رسالة الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل، مستخدمة رموزاً وطنية وإنسانية تُعيد الروح إلى الأماكن المدمرة. 

وتأثرت العاصمة الخرطوم بموجة الحرب بشكل كبير جداً، إذ تعرّضت المتاحف والعديد من المناطق الأثرية التي يتجاوز عمرها مئة عام، خصوصاً في أمّ درمان القديمة وأحيائها التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى حقبة الدولة المهدية، إلى أضرار مادية كبيرة. يعود الفنانون والناشطون الثقافيون إلى هذه الأحياء، التي شهدت ولادة الحركة الثقافية في البلاد منذ الثلاثينيات، واحتضنها آنذاك نادي الخريجين وأندية رياضية، من أجل استعادة الإرث الضائع الذي طمسته الحرب في ظل ظروف اقتصادية شخصية معقّدة جداً، إذ تحتاج البيوت والمنازل بداية إلى الترميم، وبعد ذلك مواجهة الأوبئة والأمراض التي تنتشر في كل مكان.

المساهمون