"ثقافة الكاسيت في مصر".. كيف تأثر الإعلام والسوق والمزاج العام

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 07:36 (توقيت القدس)
غلاف كتاب "إعلام الجماهير. ثقافة الكاسيت في مصر" (تصميم العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أثرت التكنولوجيا على حياة الناس بدءًا من المصباح الكهربائي إلى الذكاء الاصطناعي، حيث أشار مارشال ماكلوهان إلى أهمية دراسة تأثيراتها من منظور أنثروبولوجي لفهم أبعادها الثقافية والسياسية.
- في مصر، استعرض آندرو سايمون في كتابه "إعلام الجماهير" كيف حررت تقنية الكاسيت الجمهور من سيطرة الإعلام الرسمي، مما أتاح لهم اختيار المحتوى بحرية.
- أدى انتشار الكاسيت إلى صراعات بين الحكومة والجماعات الدينية والشركات، ورغم محاولات الاحتواء، استمرت التقنية في الانتشار، محدثة تغييرات اجتماعية واقتصادية.

ماذا فعلت آلة التصوير الفوتوغرافي في الناس، كيف شذّبت لِحى الرجال، وصَفَّفَت شعور النساء، وبدّلت هندامهم، وجمّعتهم وفرّقتهم، وزحزحت أماكنهم من داخل البيوت إلى خارجها؟ يمكننا أن نُعدَّ قائمة بآلاف البصمات، الصغيرة والكبيرة، والخفية والواضحة، للأجهزة الإلكترونية في حياة الناس، منذ المصباح الكهربائي الذي غيّر الساعة البيولوجية لمجتمعات بأكملها، إلى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي أخذت تمتصُّ عقول المستخدِمين، وتعيدُ تعريفهم وتقديمهم لأنفسهم.

في خمسينيات القرن الماضي، التقط مارشال ماكلوهان أستاذ الأدب الإنكليزي، وكان مهتماً بالإعلام ودراسات الاتصال، فكرة "الوسائل التي تتحول إلى رسائل". ورأى أن الجهود البحثية تكون أفْيَدَ إذا ركّزت على أثر الوسائل في المستخدِمين من منظور أنثروبولوجي، "والعلاقة التفاعلية" بين الطرفين، و"اندماج التكنولوجية" في حياة الناس، وتاريخها التطوري غير التقني، وله دارسة مستفيضة في أثر اختراع المطبعة في تغيير أنظمة التعليم. فكل تكنولوجيا جديدة تحمل في طيّاتها مؤثرات معرفية سلوكية، فردية واجتماعية، لا محدودة، ولا يمكن الإحساس، أو التنبّؤ بها في بدايات انتشارها، فالتحوّلات الثقافية والسياسية المصاحبة للأجهزة الحديثة قد تستغرق عقوداً قبل أن تتكشّفَ أبعادُها، وقد تظلُّ غامضة ومَعْزوَّة إلى أسباب وعوامل أخرى.

هذه المنهجية حملها إلى مصر الباحث الاجتماعي الأميركي آندرو سايمون، في كتابه "إعلام الجماهير. ثقافة الكاسيت في مصر" (دار الشروق، 2025) بترجمة بدر الرفاعي، والذي يرصد كيف تمكّنت تقنية جديدة غير معقدة من التسلل إلى أعماق المجتمع المصري، مخترقة كافة الطبقات، لتصنع تاريخها الخاص، ومستخدمة ملايين البشر في حمل رسالتها وبثِّها وتلقّيها على أوسع نطاق.
 

صدمة البدايات

شريط ممغنط رقيق، بُنَّيّ اللون، يلتفُّ حول بَكْرَتين مسنّنَتين داخل علبة مستطيلة أصغر من راحة اليد. هذا هو شريط التسجيل، أو (الكاسيت)، الذي سبق الهواتف الذكية بأربعة عقود في تحرير الجمهور من السيطرة المركزية لوسائل الإعلام الرسمية الموجهة.

وإذا كانت الهواتف الذكية استخدمت أداة لإحداث زلزال سياسي من الدرجة الأولى في أكثر من بلد عربي، فإنَّ تلك العُلبة الصغيرة التي اقترنت بسماع الأغاني في النزهات وأوقات الفراغ والأماسي الرومانسية الهادئة، لم تكن أقلَّ تأثيراً في الوعي الاجتماعي، لكنَّ تأثيرها كان أقل صخباً وعنفاً، وتسللَها هادئاً وعميقَ التأثير في ظهور النزعات الفردية والجماعية الخاصة المستقلة عن التيار العام.

 ساهم الكاسيت في تحرير الجمهور من سيطرة وسائل الإعلام الرسمية

ومن الناحية التقنية، ارتبط شريط التسجيل بجهاز التسجيل المُشّغِّل للشريط، وحملا الاسم الدارج نفسه (الكاسيت)، وشكّلا معاً وسيلة لاختيار الصوت المسموع، أغنية مألوفة، أو غير مألوفة، أو قصيدة، أو خطبة دينية، أو خطاباً سياسياً، أو نكاتاً وتعليقات ناقدة للأوضاع السياسية، وقد يكون المحتوى جنسياً بذيئاً.

وبتوفِّر التقنية الجديدة في مصر منذ مطلع عهد الرئيس أنور السادات، صار مُتاحاً للجماهير العريضة أنْ تختار المحتوى، وتنتجه، وتتداوله، وتحدد الزمان والمكان وكثافة الاستماع. وأدى ذلك إلى تقليل الاعتماد على المحتوى الإذاعي الجماهيري، الخاضع خضوعاً تاماً للسلطة الرسمية في الخطاب السياسي، والديني المتساوق معه، والذائقة الفنية، والمادة الترفيهية الموجهة للعائلات المصرية، والتربوية المخصصة للطفل. 

أثار انتشار تقنية (الكاسيت) لغطاً ومفارقات، وحملات حكومية وغير حكومية لاحتوائه في المجال العام، وتقنينه سياسياً، وأيديولوجياً، وثقافياً، وتجاريا أيضاً. وتشابك الصراع على إدارة التقنية الجديدة وتوجيهها، بين أطراف عدة، فالأجهزة الحكومية سعت من ناحيتها إلى مصادرة أشرطة التسجيل التي تحوي أغانيَ ناقدةً لسياسة الدولة، وساخرة من رئيسها، مثل أغاني الشيخ إمام، وعاقبت أكشاك البيع التي تُدَاوِلُها بين طلاب الجامعات، ومن ناحية أخرى استخدمت الجماعات الدينية السلفية (الكاسيت) لبثّ خطابها الديني المعارض للسلطة السياسية، والمؤسسة الدينية الرسمية، وشنّت حملة في الوقت نفسه على استخدام الكاسيت لسماع الأغاني والموسيقى، في مسعى منها لاحتكار الاستخدام. 

أما الشركات الربحيَّة، فقد سعت إلى احتكار حقوق التسجيل والاستخدام في مجال الموسيقى والغناء، وحثّت الجهات الحكومية على حماية حقوق الملكية لمصلحة شركات الإنتاج، وتقنين ممارسات نسخ الأشرطة في الأسواق والأكشاك والبيوت الخاصة. إلّا أن كل محاولات الاحتواء والاحتكار والتجيير لم تُفلِحْ في كبح الانفلات الكامن أصلاً في خصائص تقنية (الكاسيت) المتميزة بالبساطة وسهولة الاستخدام وانخفاض السعر.
 

من الثبات إلى الحركة

تدفقت أجهزة التسجيل إلى مصر محمولة بأيدي المغتربين العائدين من الخليج العربي، ونشأت في السوق المصري في عصر الانفتاح الاقتصادي وكالات محلية تبيع مختلف أنواع الأجهزة الحديثة، ولم تنجح الصناعات المحلية في منافسة التقنية المتقدمة الواردة من الخارج. وترافق ذلك مع حملات إعلانية مكثفة تربط اقتناء الأجهزة بالحداثة والترقي الاجتماعي والرفاهية المعيشية والاستقلالية.

ويستعرض الكتاب أنماط الحملات الإعلانية في أرشيف المَجلّات والصُحُف وألبومات الصور الشخصية الملتقطة في البيوت وأماكن الاصطياف والتنزه، بالإضافة إلى أشرطة التسجيل القديمة التي تحوي تسجيلات للقاءات عائلية وحفلات. 

ويوثِّقُ الكتاب شواهد على انتشار واسع لأجهزة التسجيل في القاهرة، وفي الأرياف الشمالية، وفي الصعيد. ويستنتج أنَّ هذا الانتشار يندرج في سياق ظاهرة استهلاكية عامة، طغت على المجتمع المصري، وصبغته بصبغة التفاخر بالإنفاق والتجديد والرفاهية المادية، وحبِّ الظهور ونقل الضجيج من الفضاء الخاص إلى العام، فبعد أنْ كان الصوت محصوراً في أجهزة المذياع الثابتة في البيوت والمقاهي، صارت الأصوات من كل نوع تملأ الفضاءات العامة بفضل أجهزة التسجيل المحمولة العاملة بالبطاريات، وصار صوت المطرب أحمد عدوية على سبيل المثال، ينافس صوت أمِّ كلثوم، في إشارة دالة على هيمنة الجماهير على مساحتها الخاصة من الفضاء العام.

الوجه القبيح امتلاء البيت المصري بالأجهزة الثمينة نقله من هيئة البساطة والتقشّف القديمة إلى هيئة المخزن الاستهلاكي، بعد أنْ جمّدت العائلات أصولها النقدية في هيئة سلع مادية، فلفت ذلك أنظار اللصوص، فاستهدفوا البيوت العامرة بالأجهزة، خصوصاً البيوت المتاحة لهم سرقتُها دون عناء كبير.

ويشير الكتاب إلى اهتمام الصحافة بأخبار السرقات، ونشوء الأسواق السوداء، فضلاً عن تحقيق عصابات التهريب عبر الموانئ والحدود أرباحاً فاحشة على حساب الخزينة العامة.

ويرصد الكتاب أيضاً نشوء ظاهرة انتشار أشرطة التسجيل المقلّدة، أو المنسوخة دون مراعاة حقوق الشركات المنتجة، الأمر الذي أدى إلى إفلاس كثير منها.

لم تَعُدْ تقنية أشرطة التسجيل وأجهزتها قيدَ الاستعمال اليوم، ولا يذكرها غيرُ الجيل الذي عايشها واستفاد منها، ولم يَبْقَ الكثير من تاريخها المادي إلّا بحوزة هواة الأرشفة وحفظ الأنتيكات. إلّا أنَّ محتواها غير المادي، والذي يُمثِّل روحها الحية السارية، قد تجسَّد في هيئة تقنيات ووسائل أكثر تطوراً من الناحية التقنية، وتحمل في طيّاتها رسائل أخطر تطبيقاً، وأعمق تأثيراً. وقد ظهرت بعض إمكانياتها في (الربيع العربي)، ثمَّ في الحرب الأخيرة على غزة، وهي تَعِدُ بإمكانيات أكبر مع اندماجها العضوي في تكوين الجيل القادم.

* قاص من الأردن

المساهمون