المدنُ التي تقتل الشعراء

15 مارس 2025
تونسيون في مقهى يقرأون في الصحف عن عزل بورقيبية وتنصيب بن علي، 1987 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- عانى الشاعر منور صمادح من التهميش والإقصاء بعد انتقاده للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، مما أدى إلى فقره وعزلته ومعاناته النفسية حتى وفاته.
- انتحر الشاعر رضا الجلالي بعد حياة مليئة بالمعاناة، حيث حاول النظام تبرئة نفسه من مسؤوليته عن انتحاره، متجاهلاً الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشها.
- عاش الرسام حبيب بوعبانة في خوف دائم من الاعتقال وتوفي في مطعمه المفضل، بينما حاولت الإذاعة التونسية تلميع صورة النظام، مما يعكس معاناة المثقفين تحت القمع السياسي.

كنت كما لو أني بين النوم واليقظة عندما رأيت فيما يرى النائم الشاعر منور صمادح، وهو يجول في شوارع تونس وحاراتها القديمة بطقمه الرمادي الوسخ، بعينين منطفئتين، وملامح وجه شوّهته آلام المرض النفسي. بدأت مأساة الشاعر عندما كتب قصيدته عن بورقيبة: (عهدي به جداً فكان مزاحاً/ بدأ ضحية وانتهى سفاحاً)، وكان ذلك في سنة 1967، حينها أمر بورقيبة بإعدام الرجل معنوياً، وتمّ له ذلك.

لا أدري أكان الوقت آخر الخريف، أم أوائل الربيع. وفي البعيد وراء زجاج نافذة القطار أضواء شواطئ الضاحية الشمالية، سيدي بوسعيد، وقرطاجنة. نقاط نورٍ برتقالية نحيلة تنوس في الظلمة الحالكة. والرّياح النديّة تهبُّ على الخليج في هذا الفصل الذي تجتاح فيه طيور النحام سواحل بحيرة تونس. لا أدري كيف وجدتني أجلس في إحدى عربات قطار حمام لف (صار بعد الاستقلال حمام الأنف، ولا أدري من أين جاءوا بهذا الأنف) أمام منور صمادح. لا أدري أكان في ذلك اليوم الذي أخذني معه إلى صديقه عمر فضة، في ذلك البيت الكولونيالي، وعزفَ على العود أمام النافذة الزرقاء الواسعة التي تفتح على الفيراندا قصيدته "خبروها بأننا قد عشقنا وأرقنا صبابة وطربنا"...

ربّما في تلك الفترة كانت قد بدأت محنته التي استمرت ثلاثين عاماً حتى وفاته. أتذكّر حديثه عن الحدس والفراسة كما لو كان مونولوغاً. والآن يعود ذاك الزمان في الحلم وكأنه خارج الزمان. وتعودني صورة الباخرة الإيطالية التي تأتي كلّ أربعاء، وهي تمخر مياه القنال بمداخنها الكبيرة البيضاء والسوداء والحمراء، وطيورها التي تبحر معها.

نزلنا من القطار وغادرنا المحطة، سرنا خطوات حتى شارع هولندا، وتوقّف قليلاً أمام "ملهى البوتينيار". تمعّنني للحظة وهو يقرّب بين جفونه كما لو كان يدقّق النظر ويتفرّس في وجهي. وكانت آخر الكلمات "رد بالك على نفسك". الآن أُدرك أنّها كانت الحقبة التي بدأت فيها "الهرسلة": المتابعات والمضايقات الأمنية، والاستنطاق البوليسي. هكذا أسقطوه في وهدة المرض النفسي. كان شكلاً من الإعدام. أنهوا هذا الشاعر الكبير. وقع في حالة متقدّمة من البارانويا، ومع الأيام تشوّهت ملامح وجهه من جراء تعاطي الأدوية الكيميائية.

في فقر مدقع قضى الثلاثين سنة الأخيرة من حياته هائماً في شوارع تونس، قضاها في التردّد على مستشفى الأمراض العقلية في ضاحية منوبة، قضاها في عزلة مريرة، قضاها في ظلمة المرض. تخلّى عنه الكلّ سوى شقيقه عبد الرحيم. كانوا مشغولين بالصعود عبر تلك المؤسّسة الستالينية التي اسمها "اتحاد الكتّاب التونسيين". في الفترة نفسها كان إسماعيل المهدوي، المثقف والمناضل المصري، قد زجّ به عبد الناصر في مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، حيث مكث سبعة عشر عاماً.

تشوّهت ملامح وجهه من جرّاء تعاطي الأدوية الكيميائية

بعد منور صمادح انتحر الشاعر رضا الجلالي وهو في عقده الثالث، وترك قصائد غنائية جميلة، متفرّقة هنا وهناك. قال لي ذات يوم حاولت الانتحار، ولم أصدق، وأجبته مازحاً تفشل حتى في الانتحار! وعندما سمعت بعد ذلك بحادثة انتحاره شعرت بألمٍ حادّ، وتبكيت ضمير استمر معي إلى اليوم. كيف يقع ألا نشعر بمعاناة الآخرين؟

وسرنا من أمام بريد شارع رومة إلى قهوة بنهج أثينا، عبر زقاق وراء البنك المركزي وما إن جلسنا حتى بدأ بقراءة آخر قصائده. كان الجلالي مثال الشاعر اللعين، كما عرفه جيل رامبو وبول فيرلين. عاش حرّاً ودفع ثمن هذه الحرية باهظا كما هو ثمنها دائماً. ودفاعاً عن السلطة، أرجعوا انتحاره لأسباب أخلاقية وشخصية تبرئةً للنظام من دمه، كما لو أنَّ هذا الشاعر يسبح في الفضاء خارج الشروط الاجتماعية والسياسية لتلك اللحظة التاريخية...

ولغت أقلام مُخبري السلطة في دم الرجل مكيلة له شتى التُّهم... بعد رضا الجلالي. انتحر حبيب بوعبانة. وحسب رواية ابن أخيه، عنّفوه ذات ليلة وهو عائد إلى بيته في ساعة متأخرة من الليل كما هي عادته. فلزم بيته، قال لي ظلّ حبيب مرعوباً كامل الوقت، ينتظر في كلّ لحظة أن يأتوا ويحملوه إلى السجن. حتّى أنه، وفي يوم العيد كان لا يريد فتح الباب للزائرين. وذات يوم غادر البيت إلى مطعمه المفضّل، وسقط ميّتاً في مجلسه المعتاد، وحملناه ذات ضحى رمادي إلى مثواه الأخير في مقبرة الدندان من ضواحي تونس. وفي ذلك اليوم كانت الإذاعة التونسية تشيد بمناقب هذا الرسام الكبير في عملية قذرة لغسل نظام بن علي.

 

* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام