لا تزال أصداء احتجاجات الجماعات القومية في بلغاريا على العرض الافتتاحي لمسرحية "السلاح والإنسان"، من تأليف المسرحي الأيرلندي جورج برنارد شو وإخراج الممثّل الأميركي من أصل أوكراني جون مالكوفيتش، تتردّد في وسائل الإعلام البلغارية والبلقانية؛ فقد أسفرت الاحتجاجات على عرض المسرحية المُناهضة للحرب، في العاصمة البلغارية صوفيا يوم السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، عن تدخُّل قوّات حفظ الأمن، ثمّ استمرّت الاحتجاجات بشكل أكثر سلميةً بعد العرض الثاني في الثامن من الشهر نفسه. لكنّ الأحداث خلَّفت توتّراً محسوساً استمرّ مع العرض الثالث والأخير أوّل أمس الذي حالت الاحتجاجات دون تقديمه.
خلال العرض الأوّل، حاول متظاهرون اقتحام "مسرح إيفان فازوف الوطني"، زاعمين أنّ المسرحية الساخرة، والتي تدور أحداثها خلال حرب 1885 الصربية- البلغارية، عملٌ مناهض للشعب البلغاري وإهانةٌ لأبطال الحرب البلغاريّين، وهو ما رفضته هوليوود ووصفته بالتحريض من قِبل اليمين المتطرّف.
وبسبب السخط من السخرية المزعومة من الجنود البلغار في المسرحية، وقعت اشتباكات بين القوميّين والشرطة وزوّار المسرح الذين لم يتمكّن معظمهم من دخول القاعة وحضور العرض الذي بيعت جميع تذاكره، فيما ظهر الممثّلون على خشبة المسرح أمام قاعة فارغة تقريباً، فيها بضع عشرات ممّن تمكّنوا من الدخول، بالإضافة إلى بعض الصحافيّين.
"هذه المسرحية وصمة عار ويجب حظرها"، صاحت يوانا إلييفا، الطالبة ذات الواحد والعشرين ربيعاً وسط الحشد الغاضب في الخارج، وأضافت: "إنّها تسخر من أسلافنا الذين ماتوا من أجل بلغاريا". أمّا الممثّل والمُخرج جون مالكوفيتش الذي سبق أن عرض العمل نفسه على "مسرح برودواي" في نيويورك عام 1985، فقد عبّر، خلال مؤتمر صحافي عقده مع عددٍ من ممثّلي وممثّلات المسرحية، عن دهشته من ردّة الفعل تلك: "إنّه ردّ فعل غريب حقّاً، لكنّه وقت غريب في العالم. المزيد والمزيد من الناس يحبّون حظر الأشياء التي لا يتّفقون معها"، مضيفاً أنّه لطالما كان مهتمّاً بتقديم أعمال مسرحية رفيعة، وأنّ "السلاح والإنسان" أحدها.
حاول المتظاهرون الاعتداء على مدير المسرح فاسيل فاسيليف، وطالبوا باستقالته. وردّاً على ذلك، قال: "أظنّ أن هذا الاحتجاج غير قانوني حالياً. من المؤسف أن يرغب أحد بممارسة الرقابة في 2024. هل هذه بلدنا؟ هل وصلنا إلى هذا المستوى؟ بعد 100 عام، أن يقتحم أحدٌ المسرح الوطني، شيء غير مسبوق".
كما هوجم المخرج البلغاري البارز ثيودور أوشيف أثناء مغادرته المبنى، وقال في مقابلة معه: "هل هذه ديمقراطية؟ هل هذا حكم القانون؟ هل هذا حقّ الردّ؟ هل هذا حقّ التصويت؟ هل هكذا ستسير الأمور في هذه البلاد؟ بالنسبة إليّ، هذه دولة فاشية تماماً. الليلة هي ليلة الزجاج المكسور في بلغاريا".
يصبح منع الأصوات المخالفة أمراً مألوفاً في أوروبا
ورغم أنّ الأمور سارت على ما يُرام قبيل العرض الثاني في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر؛ حيث تظاهر المحتجّون القوميّون بشكل سلمي، وتمكّن الزوّار من متابعة العرض المسرحي، إلّا أنّ وزارة الداخلية أرسلت تقريراً إلى رئيس الوزراء البلغاري ديميتار غلافشيف، موجّهةً فيه أصابع الاتهام إلى مدير المسرح الوطني (يُسمّى هنا مسرح الشعب) فاسيليف.
وردّاً على انتقادات وزارة الداخلية، قال فاسيليف إنّه عادةً ما يقدمّ التحية للجمهور قبل العروض، وذلك ليس استفزازاً منه؛ على العكس، فقد تمّت دعوته إلى الوقفة الاحتجاجية لكي يُدلي برأيه، لكنه لم يرَ سبباً للتصعيد، مؤكّداً أنّ "المسرحية ستُعرض بانتظام".
كما علَّق فاسيليف في برنامج على إحدى القنوات التلفزيونية البلغارية، قائلاً: "يوجد عالَمان للوطنية، أحدهما كان لنا، حيث قدّمنا عرضنا العالمي الأوّل، والآخر كان في الخارج، حيث أثبتنا مستوى التطوّر الذي وصلنا إليه في الوقت الحالي"، مضيفاً أنّه يشعر بالمرارة، لكنّه عقّب بأنّه لا يوجد داعٍ حتى اللحظة لأن يشعر جون مالكوفيتش بالمرارة أيضاً، حيث "أدّى عمله بشكل جيّد ولم يسمحوا بحظر عمله".
كان مؤلّف المسرحية جورج برنارد شو، وخلال مقابلة له بعد أول عرض في 21 نيسان/ إبريل 1894 في لندن، وكما في مواضع أُخرى، استبق نتائج كهذه بقوله إنّ المسرحية كانت منتهيةً تقريباً قبل تحديد موقعها: "أردتُ أن تكون الحرب خلفية للعمل. ولأنّني لا أملك أيّ فكرة عن الجغرافيا أو التاريخ، فقد سألت أصدقائي عن أيّ حروب حديثة يعرفونها، فأخبرني سيدني ويب عن هذه الحرب، الصربية- البلغارية. وجدت البلدان في الأطلس، ثم صغت الشخصيات بحيث تُناسب المكان والزمان، وبذلك اكتملت المسرحية".
لقد شهدنا مؤخراً "حظر" أو تغييب الثقافة والفنون الروسية في العديد، إن لَم نقل في غالبية المؤسّسات الثقافية في أوروبا والولايات المتّحدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى قضايا التسمية والصراع التاريخي واللغوي والثقافي الذي أثارته بلغاريا واليونان ضدّ مقدونيا، والذي، نظراً لامتلاك الدولتَين العضوتَين حقّ النقض، أجبر مقدونيا على القيام بالعديد من التنازلات، مثل تغيير علمها واسمها ومناهجها التعليمية وسرديتها القومية والتاريخية الرسمية لكي تبقي على مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما أنّ المثال الأكثر وضوحاً الآن هو منع الصوت الفلسطيني ومحاولة طمسه والتستّر الثقافي على حرب الإبادة الإسرائيلية على فلسطين ولبنان.
كلُّ ذلك يثير العديد من الأسئلة؛ من قبيل: هل تصبح محاولات فرض الرقابة ومنع الأصوات المخالفة أمراً مألوفاً في أوروبا التي ما زالت تُصرّ أو تتخيّل أنّها "مهد الثقافة"، في حين أنّها تبدو الآن أكثر من أيّ وقت منصّة لانتحار قيم ثقافية عديدة، في مقدّمتها حرية التعبير؟
* كاتب من البلقان