استمع إلى الملخص
- الانفصال الجغرافي والسياسي بعد انهيار الدولة العثمانية والسياسات الثقافية للجمهورية التركية الحديثة ساهمت في تهميش الأدب العربي.
- رغم بعض التحولات الإيجابية، مثل فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، يقترح المثقفون الأتراك تعزيز التبادل الثقافي لتجاوز الفجوة الثقافية.
من ينظر إلى واقع الأدب العربي في تركيا من الخارج يظنّ أن أشياء كثيرة قد تغيَّرت مع انفتاح تركيا على العالم العربي خلال العقدين الأخيرين بعد قطيعة دامت عقوداً. إلا أن من يتابع هذا الواقع عن قرب يدرك أن هذا "الانفتاح" لم يكن له أيُّ بُعد ثقافي. وإذا قارنّا بين حجم الترجمات المنجزة من آداب أخرى إلى التركية وبين ما يُترجم من العربية، سندرك أن وضع الأدب العربي في تركيا لم يتغير كثيراً عمّا كان عليه في الماضي. قد يكون حضور الأدب العربي ضعيفاً في لغات وثقافات أخرى، لكننا نتحدث هنا عن الثقافة التركية، التي تحمل لغتها آلاف الكلمات العربية، ويتداول شعراؤها قصة "مجنون ليلى" وكأنها جزء من أدبياتهم.
وجَّهت "العربي الجديد" بعض الأسئلة إلى كُتّاب أتراك ومحررين في دور نشر ومجلات تركية بارزة حول تصوّراتهم عن عدم حصول الأدب العربي على القدر نفسه من الاهتمام في تركيا مقارنةً بالآداب الأخرى، وبما يتناسب مع التاريخ المشترك بين تركيا والعالم العربي، ومشاركتهما جغرافيا واحدة. فرغم صدور عدد من الترجمات من الأدب العربي في السنوات الأخيرة، فإن الروائية جوكتشه بيلجين ترى في حديثها إلى "العربي الجديد" أنّ "عدد الترجمات الجادّة والمنجزة باحتراف من الأدب العربي إلى التركية محدود للغاية".
وقد تباينت آراء الكُتّاب ومحرري النشر في تركيا حول أسباب عزوف كثير من دور النشر التركية عن ترجمة الأدب العربي. إذ يرى محمد بوزكورت، رئيس قطاع النشر في دار "قرمزي كيدي"، إحدى أبرز دور النشر في تركيا، أن "قطاع النشر في تركيا يمرُّ اليوم بأزمة خانقة، وأن الأعمال الأدبية، مهما بلغت قيمتها الفنية، لا تُحقق العائد الاقتصادي الذي يُرضي الناشر. لذلك، تضطر دور النشر إلى اختيار الأعمال التي تُناسب السوق، لا التي تسدُّ حاجة الثقافة أو تبني الذائقة الجمالية".
انفصال الجغرافيا بين العرب وتركيا أحدث قطيعة أدبية
وبينما يُفهم من كلام بوزكورت أن دور النشر تلبي احتياجات "السوق"، أي القراء، ترى المحرّرة في مجلة "Yeni e" الأدبية كُبرى ياتار أنَّ المشكلة ليست في القرّاء فقط، وتوضّح: "ليس القارئ التركي فقط هو من يُظهر ميولاً واضحة نحو الأدب الغربي، بل الكُتّاب والشعراء الأتراك يعكسون الموقف نفسه. وكما أن القارئ التركي العادي قد يكون له رأي حول الأدب الصيني أو الياباني أو الكندي أو الاسكندنافي، فإن الكُتّاب والشعراء، على وجه الخصوص، لديهم اهتمام عام يسمح لهم بكتابة مقالات وتقديم أطروحات حول هذه الموضوعات".
الأدب العربي.. إلى التركية من بوابة نوبل
وتذهب ياتار إلى أبعد من ذلك، إذ ترى "أن غياب الاهتمام لا يقتصر على الأدب العربي وحده، بل يطاول أيضاً آداب شعوب قريبة، عشنا معها قروناً طويلة في حيز جغرافي وثقافي مشترك. فالأدب الأرمني والأدب الإيزيدي والأدب الكردي أيضاً لا تحظى بما تستحقه من اهتمام في تركيا، كما أن الترجمات المنجزة في هذه المجالات غالباً ما تمرُّ دون أثر يُذكر".
يعتبر بوزكورت أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب كان نقطة تحوّل للأدب العربي في تركيا. يقول: "وجَّه فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل أنظار الناشرين في تركيا نحو الأدب العربي، ومنذ ذلك الحين، أصبحت أعمال نجيب محفوظ وجبران خليل جبران من بين الكلاسيكيات التي يُعاد طبعها وتُقرأ باستمرار في بلادنا". ولكن يجب أن يُشار هنا إلى أن نجيب محفوظ نفسه، الذي تُرجمت أعماله في نهاية الثمانينيات بفضل حصوله على نوبل، قد تُرجم عن الإنكليزية.
يرى آخرون أن هناك أسباباً ثقافوية لما يمكن تسميته بـ"الموقف" من الأدب العربي في تركيا، يقول الروائي أرجان يلماز في حديثه إلى "العربي الجديد": "لا يمكن النظر إلى الأدب بمعزل عن الديناميات التاريخية والثقافية والسياسية للمجتمع. ولهذا، فإن محدودية الاهتمام بالأدب العربي في تركيا لا يمكن تفسيرها فقط من زاوية جمالية أو تفضيلات أدبية؛ فالمسألة أعمق، وتتطلب تأمّلاً في السياق التاريخي والإيديولوجي الأوسع. فمنذ فترة تنظيمات 1839، وجَّه الأدب التركي بوصلته بوضوح نحو الغرب، وبالأخص نحو الأدب الفرنسي".
وحول الصورة النمطية للعرب وثقافتهم في تركيا التي تشكلت عبر عقود، يقول يلماز: "انفصال الجغرافيا العربية عن الدولة العثمانية أحدث بدوره قطيعة في المجال الأدبي، ولا يزال شائعاً في بعض الأوساط التركية النظر إلى حركات الاستقلال العربية بوصفها 'خيانة'". وتتفق الروائية جوكتشه بيلجين مع طرح يلماز، وتقول: "أدّت الثورات العربية في أواخر العهد العثماني إلى نشوء مسافة شعورية وسياسية بين تركيا والعالم العربي. لم يكن استبدال الحروف العربية باللاتينية مجرد تحوّل لغوي، بل تعبيراً عن قطيعة ثقافية واعية مع المشرق العربي".
ويُرجع الشاعر متين كايجالاك أسباب عدم الاهتمام بالأدب العربي تحديداً إلى مرحلة الجمهورية، ويقول: "الجمهورية التركية تأسست على قاعدة من القومية الوضعية ذات الطابع الحداثي. بالنسبة لتركيا الحديثة، شكّل الانفصال السياسي عن الجغرافيا العربية صدمةً مزدوجة، على مستوى الذاكرة الشعبية والوعي المؤسسي. وتشكلت النظرة التركية إلى العرب في إطار سلبي".
صار يُنظر إليه جزءاً من ثقافة الماضي قياساً بآداب أخرى
وحول الإجراءات المتخذة في تركيا آنذاك، يقول كايجالاك: "اتخذت الجمهورية التركية، في إطار بنائها هويةً جديدةً، موقفاً صارماً تجاه كل ما يمتُّ إلى العثمانية والإسلام بصلة: أُلغيت الخلافة، وأُسقطت السلطنة، واستُبدلت الحروف العربية باللاتينية في انقلاب ثقافي لغوي، وقُطع به الحبل السرِّي مع التراث المكتوب. ومنذ ذلك الوقت، انحصرت العلاقة مع اللغة العربية في نطاق ضيّق لا يتعدى "الدين والشعائر"، وصارت العربية في المتخيّل التركي مرادفاً لما هو طقوسي وماضوي فحسب".
فجوة لا تقتصر على الأدب
في مثل هذه الأجواء تحديداً، لم يكن الأدب العربي مهمَلاً فقط في تركيا، بل صار يُنظر إليه جزءاً من ثقافة الماضي قياساً بآداب أخرى، خصوصًا الأوروبية. وتعلّق بيلجين حول هذه الفكرة بقولها: "انحازت الجمهورية التركية، في مشروعها التحديثي، إلى الغرب، وتبنّت منظومة مرجعية تتمحور حول الأدب والفن والفكر الأوروبي. وبينما لقيت الآداب الفرنسية والروسية والإنكليزية، ثم لاحقاً أدب أميركا اللاتينية، ترحيباً واسعاً، ظلّ الأدب العربي يُصنّف ضمن خانة 'المتأخر'، ما أدّى إلى تراجُع الاهتمام به على المستويين المجتمعي والثقافي".
ويؤكّد كايجالاك هذه الفكرة قائلاً: "في أربعينيات القرن الماضي حين بدأت الدولة في دعم مشاريع الترجمة بشكل مؤسسي، مُنح الأدب الكلاسيكي الشرقي نصيباً محدوداً، بينما تُرك الأدب العربي الحديث على الهامش، منسيّاً أو متجاهَلاً. وقد كانت هذه النزعة جزءاً من 'الحقيبة الأيديولوجية الكمالية' التي وجَّهت حركة الترجمة، سواء في انفتاحها على الفلسفة اليونانية والأدب الغربي أو في إعراضها عن الحداثة الأدبية العربية".
إلا أن كايجالاك يرى أن هذه النظرة تغيّرت قليلًا بعد ذلك، ويقول: "بدأ المشهد يتغيّر نسبيّاً مع صعود الحركة الطلابية عام 1968 وتوسُّع التيار الاشتراكي التركي، إذ وجد المثقفون اليساريون في نضال الشعب الفلسطيني صدىً إنسانيّاً وسياسيّاً حرّك اهتمامهم بالعالم العربي". ولكن يبدو أن "الاهتمام بفلسطين"، الذي يشير إليه كايجالاك، لم ينعكس أيضاً على اهتمام حقيقي بالثقافة العربية في تلك المرحلة.
بعد صعود التيار الإسلامي المحافظ في تركيا، بدأ في تشكيل علاقة جديدة مع العالم العربي. يقول كايجالاك حول هذه العلاقة: "التيارات الإسلامية واليمينية في تركيا، دخلت إلى المشهد العربي من بوابة الأدبيات الإسلاموية أولاً، لا من بوابة الأدب الحديث، فاهتمّت بترجمة كتب الحركات والتنظيرات السياسية والدينية". ولا شك في أن وصول هذا التيار إلى الحكم قد أعطى هذه العلاقة بُعداً جديداً، لكنّه حصر الاهتمام بالثقافة العربية المتنوعة باعتبارها جزءاً من 'ثقافة الإسلام ولغته'". تقول بيلجين حول ذلك: "رغم أن اللغة العربية تُعدّ من اللغات المركزية في الفضاء الإسلامي، يُنظر إليها في تركيا بوصفها لغة دينية صعبة الفهم، لا لغة ثقافية حيّة. وهذا التصوّر يعمّق المسافة بين القارئ التركي والنصوص الأدبية العربية".
ورغم أن كُبرى ياتار ترى أن الفجوة بين تركيا والعالم العربي لا تقتصر على الأدب فقط، "بل تنسحب أيضاً على سائر الفنون عدا الموسيقى. فلا فكرة لدينا عمّا ينجزه الفنانون التشكيليون أو النحّاتون أو رسّامو الكاريكاتير أو فنانو الشوارع في تلك الجغرافيات"، إلا أنها تقترح تجاوز هذا الصمت الثقيل بـ"تنظيم ورش عمل مشتركة، وفعاليات ثقافية، وزيارات متبادلة بين الكتّاب".
وأخيراً، تؤكد بيلجين أنّ "هذه الفجوة لا تُنتج سوى فقر ثقافي، لأن أدباً يحمل في طيّاته عوالم نجيب محفوظ وغسان كنفاني وأدونيس لا يمكن إلا أن يكون مرآةً للإنسانية جمعاء". وتتمنى "أن نشهد في المستقبل مزيداً من الحضور للأدب العربي في الفضاء الثقافي التركي".