أن تكون مع الآخر: فلسفة الزواج بين الكينونة والالتزام

14 ابريل 2025
+ الخط -

ليست العلاقة الزوجية محض شراكة اجتماعية أو عقد ينظّم الحياة اليومية، بل هي في جوهرها تجربة وجودية شديدة العمق، تُعيد صياغة الذات أمام حضور الآخر. في قلب هذه العلاقة، يشتبك سؤال الكينونة بسؤال الالتزام، ويتقاطع الحبّ مع الحرية، ويظهر "الآخر" لا كعنصر خارجي، بل كمرآة لكينونتنا، ككائن يُربك حدود الأنا، ويُعيد تشكيلها.

في هذا المقال، نحاول أن نتأمّل فلسفيًا في معنى أن "تكون مع الآخر" ضمن إطار الزواج: كيف يُصاغ المعنى من خلال هذه العلاقة؟ ما الذي يكشفه الالتزام الزوجي عن الذات؟ وأين يتقاطع الروحي، الوجودي، والعاطفي في نسيج هذه التجربة الإنسانية الفريدة؟

 الوجود مع الآخر: من "الأنا" إلى "النحن"

كلّ علاقة، لا سيّما الزوجية، تُقيم حوارًا دائمًا بين الذات والآخر. وهنا، تحضر فلسفة مارتن بوبر في التمييز بين علاقتين أساسيتين: "أنا – هو"، حيث يُنظر إلى الآخر كشيء، و"أنا – أنت"، حيث يُعاش الآخر كوجود حيّ متكامل. العلاقة الزوجية الحقيقية، من هذا المنظور، لا تنجح إلا حين تُبنى على علاقة "أنا – أنت"، حيث لا يُختزل الشريك إلى وظيفة أو دور، بل يُرى بوصفه كائنًا كامل الحضور، يُخاطب من الأعماق.

لكن هذا اللقاء الصافي ليس دائمًا. فمع مرور الوقت، وتحت وطأة الاعتياد، قد تتحوّل العلاقة إلى "أنا – هو"، فنفقد حميميّتها وصدقها الوجودي.

الحبّ والحرية: مفارقة سارتر

في فلسفة جان بول سارتر، الحبّ (والزوجية بشكل خاص) يحمل تناقضًا وجوديًا؛ كلّ فرد يسعى إلى أن يكون حرًّا، غير موضوع في وعي الآخر. ولكن في الحبّ، نرغب أن نكون موضوعًا محبوبًا، وأن نحوز على اهتمام الآخر بشكل دائم. وهذه الرغبة تُنتجُ صراعًا: إذا حاول أحد الطرفين السيطرة على الآخر، أو حتى "امتلاكه" عاطفيًا، فإنّ العلاقة تسقط في التشييء.

مع مرور الوقت، وتحت وطأة الاعتياد، قد تتحوّل العلاقة إلى "أنا – هو"، فنفقد حميميّتها وصدقها الوجودي

من هنا، فإنّ الزواج لا يكتمل إلا بوعي مزدوج: أن تحبّ الآخر وتمنحه حريته، وألّا تجعل الحبّ وسيلة للسيطرة المقنّعة. إنّه توازن صعب، لكنه وحده يضمن أصالة العلاقة.

كيركغارد: الزواج كقفزة إيمانية

في تأملات سورين كيركغارد، تُطرح العلاقة الزوجية بوصفها فعلًا إيمانيًا، لا بمعنى ديني فقط، بل من حيث هي قفزة في المجهول. الزواج ليس مجرّد قرار عقلاني، بل هو التزام وجودي في وجه القلق واللايقين. إنّه يقين في قلب الشك، واختيار متكرّر، رغم كلّ هشاشة الحياة والمشاعر.

كيركغارد يميّز بين "الحياة الجمالية" و"الحياة الأخلاقية"، الأولى تبحث عن اللذّة والهروب من المسؤولية، أما الثانية فهي القبول الناضج بالتزام يربّي الذات ويعمّقها. في هذا السياق، يكون الزواج شكلًا من أشكال البطولة الهادئة.

الحب كفن: إريك فروم ونضج العاطفة

يرى إريك فروم في كتابه "فن الحب" أنّ الحبّ ليس انفعالًا عابرًا، بل هو موقف أخلاقي، ومهارة وجودية. إنّه ليس اندفاعًا شعوريًا، بل مسؤولية عميقة تجاه نموّ الآخر، وارتباط صادق بدون تملّك.

الزواج ليس مجرّد قرار عقلاني، بل هو التزام وجودي في وجه القلق واللايقين

الحبّ الناضج هو علاقة بين شخصين يحتفظ كلّ منهما بفرديته، لكنه يعطي من ذاته بوعي. والزواج الناجح، وفق هذا التصوّر، لا يقوم على تبادل المنافع، بل على الانفتاح والتجاوز المستمر للأنانية.

 الزمان والكينونة: الزواج أمام الزمن

وفق مارتن هايدغر، نحن كائنات زمنية، نوجد في العالم بوصفنا منفتحين على الموت، وهذا ما يضفي على كلّ علاقة معنى خاصًا. في الزواج، نحن لا نبحث فقط عن السعادة الآنية، بل نبحث عن سند نواجه معه الزمن، والعدم، والتحوّل.

الزواج إذًا ليس مجرّد عقد يدوم، بل مسار في الزمن، مشروع مشترك لخلق المعنى في عالم زائل. من هنا، تصبح العلاقة الزوجية مقاومة للعدمية؛ ملاذًا ضدّ العبث، ضدّ الانهيار الداخلي، إن عُشيت بصدق.

التوتّر الخلاق: بين الحب والمؤسسة

هنا يبرز زيغمونت باومان، في نقده للحداثة السائلة، حيث يرى أنّ العلاقات العصرية تعاني من هشاشة بسبب رفض الالتزام الطويل. فالمجتمع الاستهلاكي غيّر نظرتنا إلى الحبّ والزواج، فصارا خاضعين لمنطق السرعة والتجربة.

الزواج لا يكون أصيلًا إلا حين يُبنى على شراكة حقيقية بين ندّين، لا على علاقة تبعية

الزواج اليوم يُختبر كمنتج؛ إن لم يُرضِ، يُستبدل. لذا، يصبح الثبات عملًا مقاومًا، والثقة مشروعًا نادرًا. العلاقة الزوجية الناضجة تعترف بهذا التوتّر بين الحبّ الحرّ والمأسّسة، لكنها لا تهرب منه، بل تعلّق عليه معنى جديدًا.

 فيلسوفات النساء: الحبّ من منظور نسوي

نستحضر هنا فكر سيمون دي بوفوار، التي رأت أنّ مؤسّسة الزواج كثيرًا ما تحوّلت إلى وسيلة لاضطهاد المرأة، لا لتكاملها. الزواج لا يكون أصيلًا إلا حين يُبنى على شراكة حقيقية بين ندّين، لا على علاقة تبعية.

المرأة، كما الرجل، يجب أن تدخل الزواج بكامل حرّيتها واستقلالها الوجودي. إنّ المساواة ليست ترفًا، بل شرطًا لصدق الحبّ، ولبناء علاقة لا تقوم على الامتياز، بل على الاعتراف.

البعد الروحي: رؤية المتصوّفة

في المقابل، قدّم الصوفيون تصوّرًا للزواج يُضيء على بعده الروحي، لا الجسدي أو الاجتماعي. يقول ابن عربي: "النكاح سرّ من أسرار الله"، لأنه يوحّد النفس، ويكشف مرآة الذات في وجه الآخر.

الزواج، في التصوّف، ليس نهاية لرحلة العشق، بل بدايته

الزواج، في التصوّف، ليس نهاية لرحلة العشق، بل بدايته. هو ساحة لتجلّي الله في المحبّة، وانعكاس لأسمائه في العلاقة بين الزوجين. فكما قال جلال الدين الرومي: "العاشق مرآة معشوقه"، فإنّ الزواج يصبح ميدانًا لتربية الروح، لا فقط تسكين الجسد.

 الفلاسفة المسلمون: بين الشريعة والحكمة

يرى الغزالي في إحياء علوم الدين أنّ الزواج من "السنن الفطرية"، وأنّه طريق لضبط النفس وتزكيتها. لكنه لا يختزله في الطاعة والواجب، بل يجعله مدخلًا للتأمّل في النفس والغير، وترويض الأهواء، وتحقيق الطمأنينة.

أما ابن سينا، فيربط بين الزواج ونظرية "الاتصال" بين النفوس، معتبرًا أنّ العلاقة الزوجية تتجاوز الجسد إلى "الملَكة النفسية"، حيث يتحقّق التآلف الحقيقي على مستوى الروح.

 الزواج كمختبر للوجود

ليست العلاقة الزوجية مؤسّسة جامدة، ولا حالة شعورية عابرة. إنّها تجربة وجودية عميقة، تتقاطع فيها الفلسفة والروح، الفردي والمشترك، الحبّ والحرية، الالتزام واللانهاية.

هي، كما قال أفلاطون في "المأدبة"، محاولة لاستعادة النصف الآخر، لا خارجنا، بل في داخلنا. والزواج الحقيقي لا يتم حين نجد من يُكملنا، بل حين نختار أن نكون مكتفين بذاتنا، ومع ذلك نمنحها للآخر.

الزواج إذًا، ليس نهاية البحث عن الحبّ، بل بداية حبّ يُربّي فينا القدرة على العطاء، والنظر، والانفتاح… مشروع مفتوح نحو المعنى.

طرائف موسى
طرائف موسى
طالبة دراسات عليا في الجامعة اللبنانية بيروت/ العمادة، تخصّص فلسفة وتحضر الآن رسالة الماجستير مسار الإرشاد الفلسفي. عملت سابقا، كمعلمة في لجنة الإنقاذ الدولية وتعمل الآن عاملة توعية في لجنة الانقاذ الدولية.