حين تنتهي الصداقة عند جواز سفرك
لطالما بدا لي "يوم الصداقة" في معرض الطيران الياباني الأميركي الذي يُقام داخل القاعدة الجوية الأميركية في إيوكوني في اليابان، احتفالًا بالسلام، والتبادل الثقافي، وروعة الطيران المشترك. ففي عامي 2018 و2019، حضرت هذا الحدث، واستمتعت بالعروض الجوية والتقطت الصور وتذوّقت الطعام باهظ الثمن. كان مناسبة مبهجة، وكنت أتطلّع لحضوره مجدّدًا في عام 2025، إلا أن هذا لم يحصل لأسباب سنعرفها بعد قليل.
بعد دخولي اليابان، اشتريت تذكرة غالية الثمن، وراجعت الموقع الرسمي بعناية شديدة، حيث لم يُذكر فيه أيّ شيء عن قيود تتعلّق بالجنسية. كلّ شيء بدا طبيعيًا.
لكن هذه المرّة، تحوّلت التجربة من مبهجة إلى عبثية، إذ بعد أن وصلت إلى القاعدة الأميركية التي يُقام بها الحدث، أخذوا بصماتي وفحصوا هُويّتي كالمعتاد. سارت الأمور بسلاسة... حتى لم تعد كذلك. أبلغني أحد الضباط،، أنه غير مسموح لي بالدخول بسبب جنسيّتي العراقية.
كانت مفاجأة بالنسبة لي، حيث خضعت لاستجواب حول سبب وجودي في اليابان. أخبرتهم أنني باحث ومهندس. طلبوا بطاقة عمل، فشرحت أنني جئت للاستمتاع، وليس للعمل، ولذلك لم أحضر بطاقات عمل إلى معرض طيران عام. اقترحت عليهم البحث عن اسمي على الإنترنت، حيث تظهر لهم منشوراتي العلمية وانتماءاتي المهنية. نظر إليّ أحدهم بجمود، ثم انتقل إلى السؤال التالي.
سألتهم لماذا أخذوا بصماتي وفحصوا وثائقي إذا كانوا سيمنعونني من الدخول على أيّ حال. لماذا جمعوا كلّ هذه المعلومات ثم قرّروا منعي بعد ذلك؟ لماذا لم يُشر الموقع الرسمي إلى هذه القواعد الجديدة؟
لم أتلقَّ أي إشعار مُسبق، ولا إعلان عام، ولا حتى بند صغير في شروط التذكرة يُحذّر من هذا القرار. فقط منع مفاجئ وجاف من الدخول، ولم أكن الوحيد في ذلك. بعد ذلك، اقتادوني إلى ما يشبه مركز احتجاز مؤقّت داخل مبنى الركاب في القاعدة، إلى جانب عائلات من الصين وتايوان وإندونيسيا... إلخ.
قوانين بلا منطق، إجراءات بلا شفافية، وسياسات تُطبّق من دون أي اعتبار إنساني
كان المكان شديد البرودة، مكيّفات الهواء العسكرية بدت وكأنها مصمّمة لتخزين الكائنات بالتجميد. الأطفال، بين ثلاث وثماني سنوات، كانوا يرتجفون جنبًا إلى جنب معنا، ملفوفين بالمعاطف التي أحضرها ذووهم. لم يُسمح لنا بالبقاء تحت أشعة الشمس للتدفئة، على الأقل في البداية. عندما طلبت تشغيل المدفأة، وُعدنا بذلك، لكن لم يحدث شيء.
أصبحت بشكل غير رسمي المترجم بين الشرطة العسكرية والمُحتجزين، الذين لم يكن معظمهم يتحدّث الإنكليزية، فنحن في اليابان. كنت أترجم عبارات مثل "لا يُسمح لك بالدخول"، و"نحن فقط ننفذ الأوامر"، محاولًا في الوقت ذاته تهدئة الأمهات القلقات والأطفال المرتجفين وأنا في نفس مركبهم؛ محتجز لوقت غير معلوم من قبل الشرطة العسكرية الأميركية داخل دولة اليابان.
وأخيرًا، وصل الطعام، أو شيء يُشبه الطعام. ثلاث شطائر هامبرغر وبعض البطاطا المقلية، مخصّصة لستة عشر شخصًا. قسمناها بهدوء، ممتنين لأيّ شيء دافئ، حتى وإن بدا كإيماءة رمزية أكثر من كونه طعامًا حقيقيًا.
لم آكل منها شيئًا كون الطعام لا يكفي كما أخبرتني المجنّدة الأميركية. لم يكن لدى أحدهم إجابة عن وضعنا. قال أحد الضباط: "الأمر خارج عن إرادتنا". وهمس آخر معتذرًا، بأنه لا يعلم حتى من أصدر القرار أو لماذا. وأضاف: "نحن فقط ننفذ البروتوكول".
ما جعل الموقف أكثر سخرية، هو أنّ بعض أفراد العائلات المُحتجزة كانوا قد اتصلوا ببائع التذاكر قبل أسبوع وسألوا تحديدًا عن إمكانية الحضور، وقيل لهم: "كل شيء على ما يرام". لم يُحذرهم أحد. لم يُذكر شيء.
في "يوم الصداقة"، لم نعامل كضيوف، ولا حتى كمدنيين، بل كتهديدات محتملة
كان تطبيق هذه القاعدة غير المُعلنة فوضويًا وانتقائيًا لدرجة العبث. إنها البيروقراطية في أسوأ تجلياتها؛ قوانين بلا منطق، إجراءات بلا شفافية، وسياسات تُطبّق من دون أيّ اعتبار إنساني.
حين أتأمل الآن عبارة "يوم الصداقة"، لا أستطيع إلا أن أشعر بالسخرية المرّة. لم يُعاملونا كضيوف، ولا حتى كمدنيين، بل كتهديدات محتملة. لم يكن هناك أيّ كرامة في الطريقة التي عوملنا بها، لا توضيح، لا استعداد إنسانيا للاحتجاز المؤقّت.
في ذلك المبنى المتجمّد، رأيت أطفالًا جائعين وحائرين، بالغين قلقين ومهزومين. رأيت احتفالًا بـ"الصداقة الدولية" يتحوّل إلى ريبة، وعزل، ولامبالاة بيروقراطية. وكنت أحد هؤلاء؛ إنسانًا جُرِّد من السياق، اختُزلت هُويّتي إلى جواز سفر.
أخيرًا، أفرجوا عنّا تحت حراسة مشدّدة، وقادونا مشيًا إلى الحافلات التي ستُعيدنا، من دون أن يغيب أحدنا عن أنظارهم حتى جلس كلّ واحد منا في مقعده واستقر. تمّ الإفراج عنا في الساعة الثالثة. شكرني أفراد العائلات على مساعدتي لهم في الترجمة والتواصل، وكنت أجيبهم بأنّ هذا واجبي الإنساني. حتى الشرطة العسكرية شكرتني على تعاوني معهم.
لكن بدا وكأنّ الجميع نسي أنني أيضًا أحد المحتجزين، خسرت ثمن التذكرة، وتعرّضت للاحتجاز من دون أيّ سبب قانوني أو مبرّر مقبول. ومع ذلك، منحتني رؤية العائلات تعود بسلام، والأطفال في أمان، قدرًا من الراحة والعزاء في خضم هذا الحدث المؤلم.
يبدو أنّ مجرّد التفكير في أن أكون إنسانًا طبيعيًا أتمتّع بحياة عادية في هذا العالم، هو أمر غير متاح، سواء كنت في العراق أو خارجه. إن وصمة كوني مولودًا في إحدى دول "محور الشر" حسب تعبير الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن، أصبحت ختمًا أبديًا من المعاناة والمهانة أينما ذهبت.
في المرة القادمة، ربما أكتفي بمشاهدة فيلم "توب غَن" في المنزل. على الأقل، توم كروز لا يطلب جواز سفري أو إقامتي أو بطاقة عملي قبل أن أستمتع بالعرض.