المدن ليست جدراناً وشوارع

03 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 16:35 (توقيت القدس)
+ الخط -

لم يخطر بباله يوماً أن يغادر الدار البيضاء، تلك المدينة التي أحبها كما تحب الفوضى الأولى في حياة المرء. كان يرى فيها انعكاساً لحلمه، امتداداً لأحاديثه الصاخبة، وشوارعها كانت كأنها تعرفه واحداً واحداً؛ من مقاهيها العتيقة إلى أزقتها الشعبية، من ضجيج الأسواق إلى رصيف البحر الممتد حيث كان يلجأ كلما أراد أن يختلي بنفسه أو أن يكتب مقالاته بعيداً عن العيون.

أما الرباط، فلم تكن في ذهنه سوى العاصمة الرسمية، الباردة، المحايدة. يصفها لأصدقائه بنصف ابتسامة ساخرة: "المدينة التي لا تنام، لأن لا أحد أيقظها أصلاً". كان يراها موطن الموظفين والوزارات وربطات العنق، مدينة بلا قلب ولا شغف، تمر فيها الأيام كما تمر الملفات فوق المكاتب، دون دهشة أو مفاجآت.

لكن العمل في الصحافة لا يعترف بالعواطف، ولا بميل القلب للمدن. جاءت الفرصة واضطر أن ينتقل إلى الرباط ليتابع مشروعاً صحافياً جديداً، تطلب منه أن يكون قريباً من دوائر القرار، من الوزارات والمؤسسات، من مصادر الأخبار التي تصنع الحدث قبل أن يعلن عنه.

في البداية، قاوم التغيير بصمت. استقر في شقة صغيرة وسط المدينة، وبدأ يرتب حياته على إيقاع جديد. لم يكن مرتاحاً، لكنه أقنع نفسه بأن الأمر مؤقت، وأن البيضاء ستبقى دوماً "البيت الأول" الذي يعود إليه نهاية الأسبوع أو كلما سنحت له الفرصة بذلك.

مرّت الأسابيع الأولى ثقيلة، كأنها لا تنقضي. كان يقضي نهاراته بين الاجتماعات والتغطيات واللقاءات الصحافية، ويقضي ليله يتمشى بلا هدف في الشوارع التي لم يألفها بعد. أحيانًا يجلس في مقهى صغير، يتأمل المارة ويحاول أن يكتب، لكنه لم يكن يجد ما يكفي من الدفء في المدينة ليكتب عنها، أو فيها.

إلى أن جاء مساء مختلف

كان جالساً في الحديقة القريبة من مسرح محمد الخامس، حين اقتربت منه فتاة وسألته عن الوقت. كانت الساعة التاسعة ليلاً، وكانت ملامحها تحمل شيئاً من الغرابة الجميلة. لكن ما شده أكثر هو لكنتها... ليست رباطية، ولا تنتمي للهجة البيضاء. فهم من نبرتها أنها قادمة من مدينة أخرى.

تبادلا الحديث، من باب المصادفة فقط، ثم منحه فضوله سببًا للاستمرار. سألته عما يفعل هنا، وسألها بدوره عن سبب وجودها في الرباط. قالت ببساطة: "جئت لأدرس... وأكتشف". لم تكن تخطط أن تطيل الحديث، لكنها وجدت فيه ارتياحًا غريبًا، كأنها تعرفه منذ زمن. وترافقا في المشي حتى محطة الترامواي، حيث ودعها وقد تبادلا أرقام الهواتف، بلا وعود ولا توقعات.

في تلك الليلة، لم يستطع النوم. ظل يفكر في تلك الفتاة التي ظهرت فجأة، ثم اختفت بابتسامة. وفي الصباح، جاءته منها رسالة بسيطة تسأل عن حاله، فاقترح أن يلتقيا نهاية الأسبوع... ولكن في الدار البيضاء. وافقت، وبدا له الأمر كأن القدر يعيد له شيئاً فقده.

في نهاية الأسبوع، أخذها في جولة عبر مدينته التي أحب. لم يزر بها الأماكن السياحية فقط، بل ذهب بها إلى قلب المدينة التي لا تظهر في الصور: حيه الشعبي، المقهى الذي كان يقرأ فيه الصحف أيام الجامعة، الزقاق الذي بدأ منه أول خطوة في عالم الصحافة، وشاطئ بعيد كان يقصده ليكتب دون انقطاع.

كانت تنظر إليه بإعجاب خفي، وهو يحكي، يمشي، يبتسم كأنه عاد شاباً في العشرين من عمره. وكانت ترى المدينة بعينيه، وتعيد اكتشاف المغرب من خلاله، مدينة مدينة، وشعوراً شعوراً، كان يتحدث بلا انقطاع كأي طفل في حضن أمه.

منذ ذلك اليوم، تغيرت ملامح أيامه. أصبحا يلتقيان كل أسبوع تقريباً، في الرباط أو في البيضاء. كانت تسكن في الإقامة الجامعية، لكنها لم تكن تعيش على الهامش. كانت ذكية، فضولية، تحب النقاش، وكان يجد فيها ما لم يجده في من عرفهن قبلها.

العلاقة بينهما نمت بهدوء. لم يكن حباً مفاجئاً، ولا قصة درامية تنتهي بزفاف أو فراق. بل كانت علاقة من نوع آخر: تراكم، تواطؤ، ورفقة خفيفة الظل. لم يتحدثا كثيرًا عن المستقبل، لكنّ كلاً منهما بدأ يجد نفسه في الآخر. الرباط لم تعد مدينة باردة، لأنها أصبحت تحتويها. والدار البيضاء لم تعد صاخبة بقدر ما صارت حميمية لأنها تحتفظ بهما معاً.

وفي إحدى أمسيات الصيف، جلسا معاً على كورنيش الرباط. كانت تنظر إلى البحر وتقول:

"أحياناً أحسّ بأن علاقتنا هي هذا البحر... لا نعرف نهايته، لكننا نحب النظر إليه".

أجابها بهدوء:

"ربما لا نحتاج إلى النهاية الآن... يكفي أننا نحيا".

بعد شهور من لقائهما الأول، عادا إلى نفس الحديقة خلف المسرح الوطني، حيث بدأ كل شيء. جلسا على نفس المقعد. لا أحد قال شيئاً كثيراً، لكن الابتسامة التي تقاسماها كانت كافية لتؤكد لهما أن بعض القصص لا تحتاج نهاية حاسمة... فقط لحظة صادقة تُروى.

المدن ليست جدراناً وشوارع، بل انعكاس لما نعيشه فيها. الرباط لم تتغير، لكن روحه تغيرت لأنه عرف فيها من جعلها تنبض. ليس كل انتقال جغرافي فقداناً، أحياناً، هو الطريق إلى اللقاء الذي كان ينقصك... مع مدينة، أو مع شخص، أو ربما مع نفسك.

صحافي مغربي وباحث سلك الدكتوراه في العلوم السياسية.
حسن قديم
صحافي مغربي، باحث في سلك الدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله.