الاتفاق السعودي الباكستاني... محور ردع جديد أم؟
في لحظة فارقة تمرّ بها المنطقة، وسط تصاعد العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، واستمرار سياسات الإبادة والتهجير بحقّ الشعب الفلسطيني، يأتي الاتفاق الاستراتيجي الدفاعي المشترك بين المملكة العربية السعودية وباكستان خطوةً لافتةً، تحمل أبعادًا أكبر من مجرّد تفاهم ثنائي، نأمل أن تكون إشارة إلى بداية تبلور محور إقليمي جديد، يُعيد رسم خريطة توازنات القوّة في الشرق الأوسط بما يحفظ للأمّتين العربية والاسلامية حقّهما في الوجود والعيش الكريم.
الاتفاق، الذي وُقِّع خلال زيارة رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف للرياض، ينصّ على مبدأ "الدفاع المشترك"، أي إنّ أي عدوان تتعرّض له إحدى الدولتين سيُعدّ عدوانًا على الأخرى. هذا المبدأ، وإن بدا تقليديًا في صيغ التحالفات الدفاعية، إلا أنّ تبنيه في هذه اللحظة بين بلدين محوريين مثل السعودية وباكستان، يُعدّ تطوّرًا مهمًا لا يمكن عزله عن السياق الجيوسياسي المُتأزّم في المنطقة.
ويأتي الاتفاق السعودي الباكستاني في سياق إقليمي مُعقّد، ويُنظر إليه عل أنه خطوة استراتيجية من الرياض لإعادة تشكيل تحالفاتها بعد سلسلة من التوتّرات في المنطقة. فالهجوم الإسرائيلي الأخير الذي طاول قطر (الحليف المقرّب للولايات المتحدة) والذي جاء بموافقة، أو على الأقل بصمت أميركي، وهو ما اعتبره البعض "خنجر خيانة" في ظهر الدوحة، هذا الواقع الجديد دفع السعودية إلى مراجعة أولوياتها الاستراتيجية، والبحث عن شركاء إقليميين يمكن الاعتماد عليهم خارج الدائرة التقليدية، وكان الاتفاق مع باكستان خطوة في هذا الاتجاه، إذ تمثّل إسلام آباد ثقلًا نوويًا وعسكريًا في العالم الإسلامي، ما يجعلها حليفًا استراتيجيًا مهمًّا في ظلّ التحوّلات الجيوسياسية الحالية.
ووفقًا لما أوردته صحيفة فايننشال تايمز، فإنّ اتفاقية "الدفاع المشترك الاستراتيجي" بين السعودية وباكستان تعدّ رسالة واضحة من الرياض إلى واشنطن، مفادها أنّ المملكة لم تعد مستعدّة للاعتماد المُطلق على الحماية الأميركية، وأنّها تمضي بخطى حثيثة نحو تنويع تحالفاتها الأمنية وبناء شراكات جديدة تعزّز من قدرتها على الردع والدفاع الذاتي.
ليس الاتفاق السعودي الباكستاني مجرّد تفاهم ثنائي، بل يجب أن يكون بداية نواة لتحالف أوسع، يُعيد التوازن إلى معادلة القوى المختلة في المنطقة
فالسعودية، بثقلها السياسي والديني والاقتصادي، وباكستان، بقدراتها العسكرية النووية وبعدها الاستراتيجي في آسيا، تشكّلان معًا محورًا قادرًا على كسر حالة الاعتماد المُزمن على "الضامن الأميركي"، الذي باتت علاقاته الاستراتيجية مُنحازة بشكل فاضح لكيان الاحتلال الإسرائيلي، من دون مراعاة لمصالح أو أمن شعوب المنطقة.
لم تعدْ واشنطن حليفًا يُمكن الوثوق به حين يتعلّق الأمر بالقضايا العربية المصيرية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية. فالإدارة الأميركية، بجمهورييها وديمقراطييها، لم تخف يومًا دعمها غير المشروط للاحتلال الإسرائيلي، سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا. في المقابل، فإنّ الشعوب العربية، ومعها شعوب إسلامية كبرى مثل باكستان، باتت أكثر وعيًا بخطر الرهان على تحالفات دولية لا تضع حقوق الإنسان أو العدالة في الحسبان، حين يتعلّق الأمر بالعرب والمسلمين.
إنّ ما يجري اليوم في غزّة من مجازر يومية، وسكوت دولي مُريب، يُعيد تأكيد ضرورة أن تبادر الدول العربية والإسلامية لتشكيل تحالفات أمنية واستراتيجية واقتصادية خاصة بها، تحفظ أمنها القومي بعيدًا عن ابتزاز الغرب، ومساوماته السياسية.
الأمّة التي تملك أكثر من مليار نسمة، وثروات هائلة، وجغرافيا استراتيجية، يجب ألّا تبقى رهينة قرارات تأتي من وراء المحيط
من هنا، فإنّ الاتفاق السعودي الباكستاني ليس مجرّد تفاهم ثنائي، بل يجب أن يكون بداية نواة لتحالف أوسع، يُعيد التوازن إلى معادلة القوى المختلة في المنطقة. تحالف لا يقف فقط عند حدود التنسيق الأمني، بل يشمل الدعم السياسي والاقتصادي والإعلامي، ويعيد تعريف "الردع العربي" المفقود.
إنّ إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط لا يمكن أن تتم عبر التبعية أو الاستجداء، بل من خلال بناء تحالفات ذاتية، قائمة على المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل، والتصدي الجماعي للأخطار المشتركة، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي، الذي يهدّد ليس فقط فلسطين، بل استقرار المنطقة بأكملها.
ما نحتاجه اليوم تجاوز خلافات الماضي، وتغليب منطق المصلحة القومية العليا، والانخراط في مشروع عربي-إسلامي حقيقي، يبدأ بخطوات مثل الاتفاق السعودي-الباكستاني، ولا ينتهي عندها. فالأمّة التي تملك أكثر من مليار نسمة، وثروات هائلة، وجغرافيا استراتيجية، يجب ألّا تبقى رهينة قرارات تأتي من وراء المحيط.