ألمانيا تُبايع ميرز والانتصار بطعم الهزيمة
شهدت ألمانيا مؤخراً لحظة سياسية غير مسبوقة في تاريخها البرلماني الحديث، عندما فشل المرشّح المحافظ وزعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، فريدريش ميرز، في الحصول على الأغلبية اللازمة في الجولة الأولى من تصويت البرلمان الاتحادي الألماني، لاختياره مستشاراً، رغم تحقيقه نظرياً أغلبية مضمونة.
وبعد ساعات من التشاورات والمباحثات السياسية المكثّفة، عاد ميرز في الجولة الثانية ليُحقّق الفوز، حاصلاً على 325 صوتاً من أصل 328 مقعداً يملكها الائتلاف الحاكم المشترك؛ بين حزبه والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD).
هزيمة أولى تهُزّ الثقة
رغم التحالف القوي على الأوراق، أظهرت الجولة الأولى هشاشة التوافق داخل الائتلاف، فقد غاب عن ميرز ستة أصوات، ما منعه من نيل الأغلبية المطلقة المطلوبة (316 صوتاً). تلك الهزيمة لم تكن محرجة فحسب، بل كاشفة لتصدّعات داخلية في جسد الائتلاف، خاصّة من جهة الحزب الاشتراكي، الذي عبّر عدد من نوّابه عن رفضهم لشخص ميرز وبرنامجه السياسي.
تلك الهزيمة لم تكن محرجة فحسب، بل كاشفة لتصدّعات داخلية في جسد الائتلاف، خاصّة من جهة الحزب الاشتراكي، الذي عبّر عدد من نوّابه عن رفضهم لشخص ميرز وبرنامجه السياسي
النائب الاشتراكي سيباستيان رولوف كان من أوائل من صرّحوا علناً بعدم التصويت لميرز، قائلاً: "أنا ملتزم بضميري، ولا أستطيع دعم مشروع سياسي محافظ بهذا الشكل"، أما النائبة أنيكا كلوزه، فقد اعتبرت أن ميرز يُمثّل "اتجاها يمينياً مُتشدداً، ذا طابع نيوليبرالي لا يعكس قيم العدالة الاجتماعية، تحديداً مع سجلّه الداعم لخفض الضرائب على الأثرياء وتقليص الإنفاق على الرعاية الصحية".
إرث ميركل والتحالفات الهشّة
لا يغيب عن الذاكرة أنّ التحالف الديمقراطي المسيحي - الاشتراكي الديمقراطي ليس جديداً على الساحة الألمانية، فخلال حكومة المستشارة الأسبق أنغيلا ميركل، عانى الائتلاف من توتّرات متكرّرة، انتهت بانسحاب الحزب الاشتراكي من الحكومة في 2018. لكن المفارقة اليوم أن ميرز، الذي يُعتبر وريثاً غير مُكتمل لنهج ميركل "المعتدل"، يواجه اتهامات من شركائه بالانحراف نحو اليمين، عبر سياسات مثل تشديد قوانين الهجرة ودعم خصخصة الخدمات العامّة، ما يهدّد بإعادة إنتاج أزمات الماضي.
نجاح الجولة الثانية، ولكن بأي ثمن؟
في الجولة الثانية، التي جرت بعد ساعات من فشل الجولة الأولى، تحوّلت النتيجة لصالح ميرز، إذ حصل على تأييد كافٍ لقيادة الحكومة، لكن هذا التحوّل السريع يطرح تساؤلات جدية: ما الذي تغيّر خلال تلك الساعات القليلة؟ هل جرى الضغط على النواب المتردّدين؟ هل جرى التوصّل إلى تفاهمات أو وعود بتعديلات في السياسات الحكومية المقبلة؟
ميرز، الذي يُعتبر وريثاً غير مُكتمل لنهج ميركل "المعتدل"، يواجه اتهامات من شركائه بالانحراف نحو اليمين
تشير مصادر برلمانية إلى أنّ قيادات الحزبَين قد أجرت مفاوضات مُضنية، تضمّنت وعوداً بتعديل حزمة الإسكان الاجتماعي، وإعادة النظر في زيادة "ضريبة ثاني أكسيد الكربون"، مقابل دعم النواب المتمردين، غير أنّ هذه الوعود تبقى غير مكتوبة، ما يزيد من مخاطر عدم الوفاء بها لاحقاً.
ردود فعل المعارضة والرأي العام
في الجانب الآخر، لم تتأخّر المعارضة في انتقاد ما وصفته بـ "الانتصار المُعلّق"، فحزب الخضر وصف ما جرى بأنّه "رسالة تحذير مُبكّرة من أنّ ألمانيا قد تعود إلى عهد التقشّف على حساب العدالة المناخية"، في حين شكّك حزب اليسار في قدرة ميرز على ضمان الانسجام الحكومي، مُذكّراً بـ "أزمات حكومة 2018 التي انهارت بسبب خلافات مماثلة".
أما الرأي العام، فبدا منقسماً بحدّة؛ فوفقاً لاستطلاع أجرته مؤسّسة "فورسا للبحوث الاجتماعية والتحليل الإحصائي" بعد التصويت، أيّد 52% من الناخبين المحافظين نتيجة الجولة الثانية، بينما عبّر 48% من الناخبين الاشتراكيين عن قلقهم من أنّ سياسات ميرز "ستُعمّق الفجوة الطبقية".
أوروبا تُراقب بقلق
دولياً، رصدت الصحافة الأوروبية والأميركية هذه اللحظة بوصفها "علامة على الانقسام السياسي العميق في ألمانيا؛ القطب المركزي للاتحاد الأوروبي".
المستقبل القريب لا يُنبئ بقدرة حزب وحده على التفرّد بالقيادة السياسية
صحيفة "لو موند" الفرنسية اعتبرت ما جرى "جرس إنذار للديمقراطية البرلمانية في ظلّ تصاعد الشعبوية اليمينية"، بينما أشارت "فاينانشال تايمز" إلى أنّ "التحديات الاقتصادية التي تواجه ألمانيا، مثل تباطؤ النمو وارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب الأوكرانية، قد تُفجّر الخلافات داخل الائتلاف الحاكم قريباً".
ميرز بين التحدي والطموح
لا شك أنّ ميرز شخصية سياسية ذات كفاءة وتجربة طويلة، وقد حظي بدعم واضح من جناح المحافظين التقليديين، غير أنّ قدرته على إدارة ائتلاف يضم شريكاً اشتراكياً، يتناقض معه فكرياً في قضايا حاسمة مثل الهجرة، حيث رغبة المحافظين في تشديد القيود مقابل دعوات الاشتراكيين لتبني سياسات أكثر انفتاحاً.
وأما حول مسألة العدالة الضريبية، فهناك خلاف حول زيادة الضرائب على الشركات الكبرى مقابل دعم المحافظين لتحفيز الاستثمار، إضافة إلى التحوّل الأخضر، أي الخطة الألمانية للانتقال إلى الطاقة المتجدّدة بحلول 2045: معارضة الاشتراكيين لخطط المُحافظين المُقترحة لخصخصة قطاع الطاقة.
حكومة تُولد من رحم التردّد
انتصار فريدريش ميرز في الجولة الثانية لا يُعدّ نصراً سياسياً كاملاً، بل بداية لعهد مأزوم ومحفوف بخلافات مكبوتة، فالائتلاف الحاكم أمامه طريق شائك، وعليه أن يبرهن للشعب الألماني أن وحدة الصف السياسي ممكنة، وأنّ الخلافات لا تعني الشلل.
لكن المؤشّرات الأولى تدعو للتحفّظ، لا الاحتفال، فالتاريخ يُذكّرنا بأنّ 60% من التحالفات الألمانية الهشّة انهارت قبل نهاية ولايتها، وفق مركز "برلين للدراسات السياسية"، وآخرها انهيار ائتلاف أولاف شولتز المعروف باسم "تحالف المرور"، كما أنّ الأزمات الخارجية، مثل التوترات مع روسيا وتداعيات التضخّم العالمي، قد تُفاقم من الإملاءات التي يفرضها الوضع العام راهناً على الحكومة الجديدة.
يبقى السؤال: هل ستنجح هذه التحالفات في كتابة فصل جديد من الاستقرار؟ وأنا أشك، أم أنّ ألمانيا ستدخل عصراً من عدم اليقين السياسي؟ وهذا رأي الشخصي، فالمستقبل القريب لا يُنبئ بقدرة حزب وحده على التفرّد بالقيادة السياسية.