زيغمونت باومان.. التفكير في الهولوكوست
سؤالٌ يشغل الفكر الغربي منذ عقود، هو ذلك الذي يرتبط بالعلاقة بين الحداثة والهولوكوست، وما إذا كانت الحداثة وانحرافاتها نحو العقل الأداتي هي المسؤولة عن الهولوكوست، وعن مختلف أشكال التطهير العرقي والجرائم ضد البشرية؟ سيعتبر بعضهم، مثل الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، في "جدل التنوير" مثلاً، أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الحداثة والهولوكوست، في حين سيرى أبرز ممثّل للجيل الثاني، يورغن هابرماس، أنه ليس الكثير من الحداثة من صنع الهولوكوست ولكن القليل منها، رافضاً الرؤية التشاؤمية للجيل الأول، والتي أثّرت كثيراً في رموز ما بعد الحداثة في السياق الفرنسي؛ مثل جان فرانسوا ليوتار وميشيل فوكو، منافحاً عن فكرة أساسية تقول بأن الحداثة مشروع لم يكتمل، وأنه لا بديل خارج التنوير.
أما عالم الاجتماع البولندي البريطاني زيغمونت باومان فينظر إلى الهولوكوست باعتبارها نتاجاً للعقل البيروقراطي، أو لتشوّهات أصابت عقل الحداثة؛ فهو لا يعتبر هذه الواقعة نتيجة طبيعية للعداء للسامية، أو لأديولوجيات معيّنة، فتفسيره لا يرتبط بتاريخ الأفكار ولكن ببنيات معيّنة للحداثة، ويظل العداء للسامية عاملاً هامشياً.
إن باومان، وعلى النقيض من عالم اجتماع آخر هو نوربرت إلياس مثلاً، لن ينظر إلى الهولوكوست باعتبارها نقيضاً للحداثة، ولكن باعتبارها الوجه الخفيّ لها، وهو بذلك يتموقع في تقليد فكري، يعتنق مفهوماً سلبياً للتاريخ وللحداثة. وقد انطلق باومان من سوسيولوجيا عصره، والتي كانت تنظر إلى الهولوكوست باعتبارها مجرّد حادث عابر في تاريخ الحداثة، منتقداً نظرية التحديث التي كانت ترى أن التقدُّم في عملية التحديث سيجلب معه تنويراً وإنسانوية أكثر، ومعتبراً أن الهولوكوست لا تمثّل عودة إلى البربرية، بل مكوّناً شرعياً للحداثة، وسيرتبط ذلك أيضاً بالميل المستحكم بالتطوّر الحضاري، نتيجة للأتمتة والبيروقراطية، إلى تحييد الدوافع الأخلاقية المتعلّقة بالفعل الاجتماعي.
لهذا، يُفضَّل أن نقول بأننا، مع باومان، أمام نقد أخلاقي للحداثة، أكثر من كوننا أمام تفسير سوسيولوجي لها، وقد انتبه المفكّر العربي عزمي بشارة لذلك في مقدّمته لكتاب "الحداثة والهولوكوست"، وهو يكتب أنّ باومان "لم يتوصّل إلى نظرية سوسيولوجية تتجاوز ما يمكن اعتباره تفسيراً لشروط الإبادة الجماعية في العصر الحديث التي تميّزها من الإبادات السابقة التي عرفها التاريخ".
إنّ باومان محقٌّ حين يرى أن إمكانية تكرار أوشفيتز ما زالت قائمة، وقد قال أدورنو ما هو شبيه بذلك في "الجدل السلبي"، فالأيديولوجية التي صنعت أوشفيتز ما زالت قائمة، والشروط التي أنتجت الفاشية ما زالت قائمة أيضاً. ولهذا، فإن القول بأن السرديات الكبرى انتهت، ومعها ستنتهي الصراعات التي أنتجتها الحداثة، دعاية رأسمالية، ونحن نعرف أنه تمكن صياغة الدعاية على أكثر من مستوى، ومنها الفلسفي كما نعرفه منذ هيغل وتأليهه للدولة البروسية، أو هايدغر ودفاعه عن شيء اسمه الروح الألمانية، أو مايكل فالزر الذي اصطفّ بدون خجل إلى جانب حروب الديمقراطية الإمبريالية.
لم تنته السرديات الكبرى التي أنتجتها الرأسمالية، فهي تتبادل الأدوار فيما بينها، وتختفي لتظهر بأشكال أو مسمّيات أخرى. وقد بيّن عزمي بشارة، في مقدّمته للترجمة العربية لكتاب باومان، أنّ "انهيار السرديات الكبرى" لم يأت بذلك السلام الموعود، فالحروب ما زالت مشتعلة في أكثر من مكان، والجدار الذي سقط، كان مؤذناً بولادة جدران أخرى.